لماذا ينصحُ أهلُ العلم بحفظ المتون؟ للأخ
ـ[محمد السلفي السكندري]ــــــــ[19 - 07 - 07, 03:18 م]ـ
أعرفُ بعضَ الناس ممن له سنواتٌ طوال في طلب العلم، ودرَسَ كثيرا من الكتب في كثير من العلوم الشرعية، ولكن إذا ناقشته في مسألة من المسائل لم يكد يستحضر شيئا مما درس!
أيش تعريف الإجماع؟ أيش تعريف القياس؟ أيش أركان الوضوء؟
أيش أخوات كان؟ أيش موانع الصرف؟
أيش الفرق بين المقطوع والمنقطع؟
أيش أنواع التشبيه؟
أيش الفرق بين التفسير والتأويل؟
أيش أسماء العشرة المبشرين بالجنة؟
... إلخ إلخ!
وأعرفُ بعضَ الناس مِمَّن إذا قيل له: لماذا لا تحفظ المتون؟ لماذا لا تدرس أصول الفقه؟ لماذا لا تدرس علوم البلاغة؟ لماذا لا تدرس النحو والصرف؟ يقول لك: وهل الصحابة درسوا هذه العلوم؟! العلم قال الله قال رسوله فقط! العلم هو القرآن والحديث فقط!
وأعرفُ بعضَ الناس ممن إذا قيل له: قال الخليلُ بن أحمد كذا، وقال ابنُ مالك كذا، وقال الشاعرُ كذا، يقول لك: أين الأسانيدُ الصحيحة إلى هؤلاء أنهم قالوا هذا الكلام؟!!
وأعرفُ بعضَ الناس ممن شرع في طلب العلم، فجلس في مجلس الشيخ الذي يشرح ألفية السيوطي مثلا، فوجد الشيخ استغرق عدة مجالس في أسابيعَ ولم ينتهِ من عشرة أبيات! فقال في نفسه: متى أنتهي من هذا؟ هذا يستغرق عمرا ثم أحتاج عمرا بعده لدراسة الأصول، وعمرا آخر لدراسة النحو، وعمرا آخر لدراسة الفقه، وهكذا! فتراه ينقطع عن العلم بالكلية، أو يقرأ في الكتب بغير شيخ على الإطلاق!
وأعرفُ بعض الناس ممن قرأ كتابا مختصرا في كل فن من الفنون، فاعتقد العصمة في مؤلفه فصار يَقبَلُ كل ما يوافقه، ويرد كل ما يخالفه، ولا يَعُدُّ ما خرج عن هذه الكتب علما على الإطلاق!
لماذا ظهرت هذه الإشكالات السابق ذكرها؟! وما السبب في ذلك؟
السبب أننا نجهل معنى العلم، ونجهل أكثر كيف نصل إلى العلم، ونجهل أكثر كيف نحتفظ بهذا العلم!
العلم كالشجرة؛ لها أصل وأساس، ولها جذع وفروع، ولها أغصان وأوراق.
وكما تتفاوت الأشجار يتفاوت العلم عند الناس؛
فبعض الناس عنده العلم راسخا كالشجرة التليدة الراسخة منذ آلاف السنين لا تتأثر بالعوارض!
وبعض الناس عنده العلم بازخا عاليا ولكن أصله ضعيف إذا أتته ريحُ الشبهات وعواصف المشككات انقلعت شجرته من أصلها!
وبعض الناس عنده علم كثير بغير أساس كالشجرة الكثيرة الفروع والأغصان إذا كانت مقطوعة من الأرض!
وبعض الناس عنده العلم الراسخ ذو الأصول والفروع كالشجرة الكبيرة ذات الأغصان الكثيرة، ولكنها بلا ثمر لا تفيد الناس شيئا ولا تستفيد!
وبعض الناس عنده العلم الراسخ الذي يستخدمه في الضلال والإضلال، كالشجرة العظيمة تأخذ من الأرض ماء وغذاء طيبا، فتخرج ثمرا خبيثا يتأذى منه الناس ريحا ومنظرا!
وبعض الناس عنده العلم الراسخ كالشجرة الطيبة، ذات الأصول المركوزة، والفروع المنثورة، والأغصان الوارفة، والثمار اليانعة، تأخذ طيبا فتعطي طيبا، يأكل منها الناس فيحمدوها طُعما وريحا، فإذا ما صارت عجوزا وآذنت بالرحيل طفق الناس يأخذون من بذورها ما يستعملونه مزدرعا لهم في الأرض التي تخرج بعشرات الأشجار الأخرى الطيبة التي تنفع الناس أيضا، ويستمر العطاء!
والمتون لطالب العلم كهذه البذرة لهذه الأشجار، عليها تُبتنى الشجرة العظيمة، وبها يزداد كل يوم فروعا وأغصانا تستمد نورها من أصل هذه البذرة؛ فالورقة لا تصلح بغير غصن، والغصن لا يصلح بغير فرع، والفرع لا يصلح بغير جذع، والجذع لا يصلح بغير أصل الشجرة.
- فالمتون هي التي تجمع العلم في رأس الإنسان فيستطيع أن يستحضر ما يشاء بسهولة!
- والمتون هي التي تضمن للإنسان أن لم يفته شيء من أصول العلوم!
- والمتون هي التي تفرق بين الطالب الذي يشتغل بالفروع بغير تأصيل وبين صاحب التأصيل الأصيل!
- والمتون هي التي تختصر عليك أعماراً بَذَلَها من قبلك علماؤنا حتى أتوك بالزبدة والخلاصة التي تحتاج أنت إلى أضعاف أضعاف عمرك حتى تحصلها وحدك!
- والمتون هي التي تبقى معك بعد سنوات طوال من القراءة في كتب لا تلبث أن تنساها!
- والمتون هي التي تجعلك واثقاً من كلامك في مجلس المدارسة والمناظرة، فيسلم لك المؤالف والمخالف!
- والمتون هي التي تجعل لكلامك حلاوة وطلاوة، فيكون له وقع عند العامة والخاصة!
- والمتون هي الشهادة التي لها قيمة حقيقية في زمن كثرت فيها شهادات الزور!
- والمتون هي الأساس الذي تستطيع أن تسقيه كل ما تحصله من ماء العلم الطيب فيرسخ في ذهنك، بدلا من وضع هذا الماء في قيعان لا أصل لها فلا يكاد يبقى منه شيء!
أما الذي يقول: لم يفعله الصحابة! فنقول له:
- إذا فتحت كتابا واحدا من كتب أهل العلم فأنت كاذب أفاك! لأنهم لم يفتحوا الكتب!
- وإذا لم تكن عربيا سليقيا قحا فأنت مُدَّعٍ مُبطِل! لأن جلهم كانوا عربا أقحاحا!
- وإذا لم تخبرنا كيف عرفت ذلك من الصحابة من غير الكتب فأنت متناقض متضارب!
- وإذا لم تعرفنا كيف نطلب العلم من غير كتب أهل العلم فأنت جهول ظلوم!
ولهذا كله كان علماؤنا الأجلاء يوصون بحفظ المتون، ويقولون دائما: من حفظ المتون حاز الفنون.
¥