فوكفت دموع معاوية على لحيته؛ ما يملكها، وجعل ينشفها بكمه وقد اختنق القوم بالبكاء، فقال: كذا كان أبو الحسن - رحمه الله -، ثم قَالَ: كَيْفَ وَجْدُك عليه يا ضرار؟ قَالَ: وَجْدُ مَنْ ذُبِحَ وَاحِدُهَا فِي حَجْرِهَا؛ لَا تَرْقَأُ دَمْعَتُهَا، وَلَا يَسْكُنُ حُزْنُها - ثُمَّ قَامَ فَخَرَجَ.
أبو عبيدة ابن الجراح:
أبو عبيدة الأمين الرَّشيد، والقائد السَّديد اختاره عمر؛ وهو يتمنى ملأ مكانه رجالًا كأبي عبيدة.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينًا، وَإِنَّ أَمِينَنَا أَيَّتُهَا الْأُمَّةُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ.
دخل عمر بن الخطاب على أبي عبيدة بن الجراح، فإذا هو مضطجع على طنفسة رحله متوسدًا الحقيبة، فقال له عمر: ألا اتخذت ما اتخذ أصحابك؟! فقال: يا أمير المؤمنين هذا يبلغني المقيل.
وعن عمر بن الخطاب أنه قَالَ لأَصْحَابِهِ: تَمَنُّوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لي هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه في سبيل الله، ثم قَالَ: تَمَنُّوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤا وزبرجدًا وجوهرًا؛ أنفقه في سبيل الله وأتصدق، ثم قَالَ: تَمَنُّوا، فقالوا: ما ندري يا أمير المؤمنين، فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدّار مملوءة رجالًا مثل أبي عبيدة بن الجراح.
معاذ بن جبل:
مقدام العلماء، وإمام الحكماء!!!
قَالَ ابن مسعود رضي الله - تعالى -عنه: إن معاذ بن جبل رضي الله - تعالى -عنه كان أمة قانتًا لله حنيفًا، فقيل له: إن إبراهيم كان أمة قانتًا لله حنيفًا! فقال: ما نسيت، هل تدرون ما الأمة وما القانت؟! الأمة الذي يُعَلِّم الخير، والقانت المطيع لله وللرسول، وكان معاذ يُعَلِّم النَّاس الخير، ومطيعًا لله ولرسوله.
وكان معاذ بن جبل شابًا جميلًا سمحًا من خير شباب قومه، لا يُسأل شيئا إلا أعطاه، حتى أدان دينا أغلق ماله، فكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكلم غرماءه ففعل، فلم يضعوا له شيئًا، فلو ترك لأحد لكلام أحد لترك لمعاذ لكلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدعاه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يبرح حتى باع ماله وقسمه بين غرمائه، فقام معاذ لا مال له، فلما حجَّ بعثه النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن ليجبره، وكان أول من حجز عليه في هذا المال معاذ، فقدم على أبي بكر رضي الله - تعالى -عَنْهُ من اليمن وقد تُوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قَالَ أبو نعيم: وغُرماء معاذ كانوا يهودًا فلهذا لم يضعوا عنه شيئًا.
فلما قبض النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - واستخلفوا أبا بكر، فاستعمل أبو بكر عمر على الموسم فلقي معاذًا بمكة ومعه رقيق، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لأبي بكر، فقال عمر: إني أرى لك أن تأتي أبا بكر، قَالَ فَلَقِيه من الغد، فقال: يا ابن الخطاب! لقد رأيتني البارحة وأنا أنزوي إلى النار وأنت آخذ بحجزتي، وما أراني إلا مطيعك، فأتى بهم أبا بكر، فقال: هؤلاء أهدوا لي وهؤلاء لك، قَالَ: فإنا قد سلمنا لك هديتك، فخرج معاذ إلى الصَّلاة؛ فإذا هم يُصلون خلفه، فقال: لمن تصلون هذه الصَّلاة؟ قالوا لله - عز وجل -، قَالَ: فأنتم لله فأعتقهم.
وعن معاذ - رحمه الله تعالى -لَمّا أن حضره الموت، قَالَ: انظروا أصبحنا؟ فأتى، فقيل: لم تصبح، قَالَ: انظروا أصبحنا؟ فأتي فقيل: لم تصبح حتى أتى في بعض ذلك، فقيل له: قد أصبحت، قَالَ: أَعُوذُ بالله من ليلة صباحها إلى النار، مرحبًا بالموت، مرحبًا زائر مغيب، حبيب جاء على فاقة، اللهم إني قد كنت أخافك، فأنا اليوم أرجوك، اللهم أن كنت تعلم أني لم أكن أحب الدُّنيا وطول البقاء فيها لكرى الأنهار، ولا لغرس الشَّجر، ولكن لظمأ الهواجر، ومكابدة السّاعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
بين أبي عبيدة ومعاذ:
وقد أراد عمر - رضي الله عنه - أن يوقع اختبارًا - بعد أن فتحت الدنيا، على أبي عبيدة ومعاذ - رضي الله عنهما -، ليختبر حال الأمراء والعلماء.
¥