وبكى عمر بن عبد العزيز يومًا، فبكت فاطمة، فبكى أهل الدّار ولا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما تجلى عنهم العبر، قالت له فاطمة: بأبي أنت يا أمير المؤمنين! مم بكيت؟! قَالَ: ذكرت يا فاطمة مُنصرف القوم من بين يدي الله - عز وجل -، فريق في الجنة وفريق في السعير، قَالَ: ثم صرخ وغشي عليه.
قالت فاطمة امرأة عمر بن عبد العزيز: إنه قد يكون في النَّاس من هو أكثر صلاة وصيامًا من عمر بن عبد العزيز، وما رأيت أحدا أشد فرقا من ربه منه، كان إذا صلى العشاء قعد في مسجده؛ ثم يرفع يديه فلم يزل يبكي حتى تغلبه عينه، ثم يتنبه فلا يزال يدعو رافعًا يديه يبكي حتى تغلبه عينه، يفعل ذلك ليله أجمع.
قَالَ الذَّهبي: قد كان هذا الرجل حسن الخلق والخلق، كامل العقل حسن السَّمت جيد السِّياسة، حريصًا على العدل بكل ممكن، وافر العلم فقيه النفس ظاهر الذكاء والفهم، أواهًا منيبًا قانتًا لله حنيفًا زاهدًا مع الخلافة، ناطقًا بالحق مع قِلِّة المعين وكثرة الأمراء الظَّلمة الَّذين ملُّوه، وكرهوا محاققته لهم، ونقصه أعطياتهم، وأخذه كثيرًا مما في أيديهم مما أخذوه بغير حق، فما زالوا به حتى سَقوه السُّم، فحصلت له الشَّهادة والسَّعادة، وعد عند أهل العلم من الخلفاء الرّاشدين، والعلماء العاملين.
أبو مسلم الخولاني:
سيد التابعين، وزاهد العصر، أسلم في أيامِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ودخل المدينة في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه -، كان عابدًا مجاهدًا، آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكر.
عن عطية بن قيس: أن أناسًا من أهل دمشق أتوا أبا مُسلم الخولاني في منزله؛ وكان غازيًا بأرض الرُّوم فوجدوه قد احتفر في فسطاطه حفرة، ووضع في الحفرة نطعًا وأفرغ ماءً فهو يتصلق فيه وهو صائم، فقال له النفر ما يحملك على الصِّيام وأنت مسافر، وقد رَخَّص الله - تعالى -لك الفطر في السَّفر والغزو، فقال: لو حضر قتال أفطرت؛ وتقويت للقتال، إن الخيل لا تجري الغايات وهي بُدْنى، إنما تجري وهي ضمرات، إن بين أيدينا أيامًا لها نعمل.
وكان - رحمه الله - يجتهد في العبادة، حتى كان يُكلف نفسه فوق ما تريد.
عن عثمان بن أبي العاتكة قَالَ: كان من أمر أبي مُسْلِم الخولاني أن عَلَّق سوطًا في مسجده، ويقول: أنا أولى بالسَّوط من الدواب، فإذا دخلته فترة مشق ساقه سوطًا أو سوطين، وكان يقول: لو رأيت الجنة عيانًا ما كان عندي مستزاد، ولو رأيت النار عيانًا ما كان عندي مستزاد.
وقد جاء رجلان إلى أبي مسلم فلم يجداه في منزله، فأتيا المسجد فوجداه يركع فانتظراه، فأحصى أحدهما أنه ركع ثلاث مائة ركعة.
وعن سليمان بن يزيد العدوى قَالَ: قَالَ أبو مسلم: يا أم مسلم سوي رحلك؛ فإنه ليس على جهنم معبرة.
وقيل: ألقاه الأسود العنسي الكذاب في النار، فخرج منها ناجيا سالما - رحمه الله -.
عن شرحبيل الخولاني قَالَ: بينا الأسود العنسي باليمن فأرسل إلى أبي مسلم، فقال له: أتشهد أن محمدًا - صلى الله عليه وسلم - رسول الله؟ قَالَ: نعم
قَالَ: فتشهد أني رسول الله؟ قَالَ: ما أسمع!
قَالَ: فأمر بنار عظيمة فأُجِّجَت، وطرح فيها أبو مسلم، فلم تضره.
فقال له أهل مملكته: إن تركت هذا في بلدك أفسدها عليك؛ فأمره بالرَّحيل فقدم المدينة، وقد قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واستخلف أبو بكر، فعقل راحلته على باب المسجد، وقام إلى سارية من سواري المسجد يصلي إليها، فبصره به عمر ابن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، فأتاه فقال: من أين الرجل؟ قَالَ: مِنْ اليمن، قَالَ: فما فعل عدو الله بصاحبنا الذي حرَّقه بالنّار فلم تضره؟ قَالَ: ذاك عبد الله بن ثوب، قَالَ: نَشدتك بالله أنت هو؟ قَالَ: اللَّهم نعم، قَالَ: فقبل ما بين عينيه، ثم جاء به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر، وقال: الحمد لله الذي لم يمتني من الدنيا حتى أراني في أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن - عليه السلام -.
قَالَ الحوطي: قَالَ إِسْمَاعيل: فأنا أدركت قومًا من المدّادين الَّذين مدوا من اليمن، يقولون لقوم من عنس: صاحبكم الذي حرَّق صاحبنا بالنّار فلم تضره.
وربما وصل به الأمر إلى معارضة الخليفة نفسه، فيحلم عليه، ويصبر؛ لعلمه أنه يفعل ذلك حسبةً لله.
¥