عن مالك بن دينار، قَالَ: اسْتُعْمِل هرم بن حيان، فظن أن قومه سيأتونه، فأمر بنار فأوقدت بينه وبين من يأتيه من القوم، فجاءه قومه يُسَلِّمون عليه من بعيد، فقال: مرحبًا بقومي، ادنوا، قالوا: والله ما نستطيع أن ندنو منك، لقد حالت النار بيننا وبينك، قَالَ: وأنتم تريدون أن تَلْقَوْني في نار أعظم منها؛ في نار جهنم، قَالَ: فَرَجَعُوا.
ثابت البناني:
المتعبد النّاحل، المتهجد الذّابل، قد أحب الصَّلاة حتى تمنى الصَّلاة بعد انقطاع العمل.
كان ثابت البناني يقول: اللهم إن كنت أعطيت أحدًا من خلقك أن يُصَلِّي لك في قبره فأعطنيه.
قَالَ الذَّهبي: فيقال: إن هذه الدعوة استجيبت له، وإنه رُئِي بعد موته يصلي في قبره - فيما قيل.
وكان يقول ثابت - رحمه الله -: ما أكثر أحد ذكر الموت، إلا رُئي ذلك في عمله.
وقال ثابت - رحمه الله -: كابدت الصَّلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة.
قَالَ شعبة: كان ثابت البناني يقرأ القرآن في كُلِّ يوم وليلة، ويصوم الدَّهر.
وقال حماد بن زيد: رأيت ثابتًا يبكي حتى تختلف أضلاعه.
وقال جعفر بن سُليمان: بكى ثابت حتى كادت عينه تذهب، فنهاه الكحّال عن البكاء، فقال: فما خيرهما إذا لم يبكيا؟! وأبى أن يعالج.
وقال حماد بن سلمة: قرأ ثابت: {أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا} [سورة الكهف: 37] وهو يصلي صلاة الليل ينتحب ويُرَدِّدها.
عبد الله بن عون:
الإمام العلم، الحافظ لِلِسَانه، الضابط لأركانه، كان للقرآن تاليًا، ولأعراض المسلمين عافيا.
عن خارجة، قَالَ: صَحِبْتُ ابن عون أربعًا وعشرين سنة، ما سمعت منه كلمة أظن عليه فيها جُنَاح.
وعن سلام بن أبي مطيع، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَوْن أَمْلَكُهُم لِلِسَانِه.
عن معاذ بن معاذ -واحد من أصحاب يونس بن عبيد -أنه قَالَ: إِنِّي لأعرف رجلًا منذ عشرين سنة، يتمنى أن يَسْلَمَ له يوم من أيام ابن عون، فما يقدر عليه.
وقال ابن المبارك: ما رأيت مُصَلِّيا مثل ابن عون.
وعن ابن عون، أن أمه نادته فأجابها، فعلا صوته صوتها؛ فأعتق رقبتين.
قَالَ بكار السيريني: صحبت ابن عون دهرًا، فما سمعته حالفًا على يمين، برةً ولا فاجرة.
وكان ابن عون إذا صلى الغداة، يمكث مستقبل القبلة في مجلسه، يذكر الله، فإذا طلعت الشمس صلَّى، ثم أقبل على أصحابه.
قَالَ قُرَّة بن خالد: كنا نعجب من ورع محمد بن سيرين، فأنساناه ابن عون.
قَالَ بكار بن محمد: كان ابن عون يصوم يومًا، ويفطر يومًا.
قَالَ معاذ بن معاذ: ما رأيت رجلًا أعظم رجاء لأهل الإسلام من ابن عون، لقد ذُكِرَ عنده الحجّاج وأنا شاهد، فقيل: يزعمون أنك تستغفر له؟ فقال: مالي لا أستغفر للحجّاج من بين النَّاس؟ وما بيني وبينه؟ وما كنت أبالي أن استغفر له السّاعة.
قَالَ بكار بن محمد: كان ابن عون إن وصل إنسانًا بشيء؛ وصله سرًا، وإن صنع شيئًا صنعه سرًّا، يكره أن يطَّلع عليه أحد.
عامر بن عبد قيس:
العابد العالم، الخائف الوجل، أضَرَّ ببدنه ليتنعم به في الآخرة.
قَالَ عَامِرُ بن عبد قيس: لأجتهدن فإن نجوت فبرحمة الله، وإن دخلت النّار فلبعد جَهْدِي.
وكان يقول: ما أبكي على دنياكم رغبة فيها، ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشِّتاء، وقيل له: إن الجنة تدرك بدون ما تصنع! وإن النار تتقى بدون ما تصنع! فيقول: لا حتى لا ألوم نفسي، ومرض فبكى، فقيل له: ما يبكيك وقد كنت وقد كنت .. فيقول: مالي لا أبكي! ومن أحق بالبكاء مني! والله ما أبكي حرصًا على الدنيا، ولا جزعًا من الموت، ولكن لبعد سفري، وقلة زادي، وإني أمسيت في صعودٍ وهبوطٍ، جنةٍ أو نار، فلا أدري إلى أيهما أصير.
وعن الحسن أن عامرًا كان يقول: من أُقرئ؟ فيأتيه ناس فيقرئهم القرآن، ثم يقوم فيصلِّي إلى الظُّهر، ثم يُصَلِّي إلى العصر، ثم يُقرئ النَّاس إلى المغرب، ثم يصلي ما بين العشاءين، ثم ينصرف إلى منزله، فيأكل رغيفًا وينام نومةً خفيفة، ثم يقوم لصلاته، ثم يتسحر رغيفًا ويخرج.
وكان عامر بن عبد قيس لا يزال يُصَلِّي من طلوع الشمس إلى العصر، فينصرف وقد انفتحت ساقاه، فيقول: يا أمارة بالسُّوء إنما خلقت للعبادة، وهبط واديًا به عابد حبشي فانفرد يصلي في ناحية؛ والحبشي في ناحية أربعين يومًا لا يجتمعان إلا في فريضة.
¥