تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

القلم أيها الناس هو خطيب الناس وفصيحهم وواعظهم وطبيبهم .. بالأقلام تدار الأقاليم وتساس الممالك .. القلم هو نظام الأفهام وبريد اللسان الصامت .. والكتابة بالقلم شرف ورفعة للمرء وبضاعة رابحة .. هي للمتعلم بمنزلة السلطان وإنسان عينه، بل عين إنسانه .. بالقلم تخلد العلوم وتثبت الحقوق .. ولولا الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأمم واندثرت السنن ولم يعرف الخلف مذهب السلف، ورحم الله سعيد بن العاص - رضي الله عنه - حين قال: " من لم يكتب فيمنه يسرى "، ولقد أحسن معن بن زائدة حيث قال: " إذا لم تكتب اليد فهي رجل ".

أيها المسلمون .. لقد فاخر كثير من المسلمين بالقلم حتى جاروا به السيف والسنان .. نعم لقد فاخر بذلك علماؤهم وشعراؤهم وبلغاؤهم ووعاظهم .. لقد رقموا بالقلم الجاد صحائف الأبرار ليحطموا به صحائف الأشرار، ولقد أثرت أقلامهم في إرهاب العدو عن بعد ما لم تؤثره السيوف عن قرب.

لقد كانت نواياهم إبراز الخير لأمة الإسلام نصحا وإرشادا وأحكاما وفقها وأمرا بمعروف ونهيا عن منكر، وأدبا وشعرا لا يخرمان المروءة ولا يثلمان الرزانة والمنطق .. لم تكن أقلامهم مأجورة يوما ما ولم يقترفوا بالقلم ما يخدش حياء أمتهم أو يحدث ثلمة فيها، بل لم يكن همهم الإحبار أمام الدرهم والدينار وأمام حظوظ النفس والذات البالية .. فضلا عن ما قد يصاحب مثل ذلكم من تعسف وشقشقة تسترق الأقلام أو تجفف المحابر لتحتكر بقلم لا يشفي من ألم.

عباد الله .. صدق القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبس به الكاتب ويتزر به العاقل، وإن الاعتناء بأدب القلم في المعنى هو ضرورة كما هو الأمر في المبنى، وهو بذلك صاحب في الغربة ومؤنس في القلة وزين في المحافل .. ناهيكم عن دلالته عن العقل والمروءة ورباطة الجأش والتبري من ضيق العطن ومصادرة الحق وعشق الهوى الذي يعمي ويصم: ... فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (سورة الرعد 17).

ثمة .. إنه ولا شك أن من غرس بقلمه فسيلا فإنه يوشك أن يأكل رطبها، وما يستوي عن أولي النهى وذوي الحجى قلمان .. أحدهما ثرثار متفيهق يكتب قبل أن يفكر ويرمي قبل أن يبصر .. يطب زكاماً فيحدث جذاماً.

والقلم الآخر قلم يكتب على استحياء محمود واستشعار لمسئولية القلم والمحاسبة عليه أمام الله، وله مع ذلك غيرة نابتة من حب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - والنصح لكل مسلم .. وإذا ما تعارض القلمان فإن الخرس خير من البيان بالباطل، كما أن الحصور خير من العاهر. قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (سورة المائدة 100)

وحاصل ذلكم عباد الله أنه ما رؤي مثل القلم في حمل المتناقضات؛ فهو عند اللبيب المهتدي آلة من آلات الخير والبر ومركب من مراكب البلوغ والنجاح وأرب صدع الفلك الماخر، وهو عند النزق المائل عقرب خبيثة ودود علق لاصق لحم من يقاربه ..

ومع هذا كله عباد الله فإن القلم في هذا الزمان قد فشى فشوا كبيرا لم يكن كسابق الأزمان، وقد اتسع نطاقه ليبلغ القاصي والداني كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: " إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة وفشو التجارة .. حتى تعين المرأة زوجها على التجارة وقطع الأرحام وشهادة الزور وكتمان شهادة الحق وظهور القلم " رواه الإمام أحمد في مسنده.

وإن مما لا شك فيه أن الشيء إذا فشى وذاع ذيوعا واسعا كثر مدعوه وقل آخذوه بحقه؛ فيكثر حينئذ الخطأ ويعم الزلل؛ فيبرز ذلكم عري بعض الأقلام عن الأدب .. فلا ترعى حرمة ولا تحسن رقما ولا تزن عاطفة في نقاش؛ فتثور بسببها خواطر النفوس وتبعث الأضغان وتكشف الأستار ويشتد اللغط رقما بقلم في قرطاس ملموس بأيد .. ناهيكم عن الكذب والافتراء والتصريح بالعورات وما يخدش العدل والإنصاف والموضوعية البريئة مع ما يصاحب ذلكم من قلم متعثر؛ فيزداد خطره ويستفحل شره .. ومن ثم ينوء صاحبه بأحمال لا يقلها ظهر ودموع ندم على قبح تسطير ما لمددها انقطاع: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (سورة الإنفطار 12).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير