تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

كان كلُّ مدد هذه اليقظةِ مستجلباً كلُّه من علوم دار الإسلام، من العلم الحيِّ في علمائه، ومن العلم المسطَّر في كتبه، والسبيل إلى ذلك في الأمرين جميعاً،كان معرفةَ اللسانِ العربيِّ، الذي كان له السيادةُ المطلقةُ على العالم، قروناً قبل ذلك طِوالا،فكان من أهمِّ الوسائل المُوصلة إلى جني ثمار هذه النهضة، بعثةُ أعدادٍ كبيرةٍ ممن تعلموا العربية وأجادوها إجادةً ما، تخرجُ لتسيحَ في أرض الإسلام، وتجمعَ الكتبَ شراءً وسرقةً، وتلاقي الخاصَّة من العلماء، وتخالطَ العامَّة من المثقفين والدُّهماء، وتدوِّنَ في العقول وفي القراطيس ما عسى أن ينفعَهم في فهم هذا العالم الإسلاميِّ الذي استعصى على المسيحيِّة واستعلى قروناً طوالاً، يخرجون أفواجاً تتكاثرُ على الأيَّام، ويجوبونَ أرجاء هذا العالم، ويعودون لإتمام عملين عظيمين:

• إمدادُ علماء اليقظة النصرانية بهذه الكنوز النفيسة من الكتب التي حازوها أو سَطوْا عليها، وإطلاعهم على ما وقفوا عليه فيها.

• إطلاعُ رهبان الكنيسة وملوكها على كل ما علموا من أحوال دار الإسلام.

وكان أهم ما لاحظوه أو خبروه، هذه الغفلةَ المطبقةَ على أرض الإسلام، والتي أورثهم إياها الاستنامةُ إلى النصر القديم على المسيحيّة، والاغترار بالنصر الحادث بفتح القسطنطينية، ثم سماحة أهل الإسلام عامتِهم وخاصتِهم مع مَنْ دينُه يخالفُ دينَهم، ولا سيَّما اليهود والنصارى، لأنهم أهلُ كتاب، وأهلُ ذمة، ولأنهم أتباع الرسولين الكريمين موسى وعيسى ابن مريم – عليهما السلام -، وأَعلَموا رهبانَهم وملوكهم أنَّ هذا هو الذي يسَّر لهم أنْ يجوبوا في الأرض غير مُرَوَّعين، ويسّر لهم خاصة أن يُداهنوا العلماء والعامة وينافقوهم ويُوهموهم بالمكرِ أنهم طلابُ علمٍ لا غير، خالصةً قلوبُهم لحبِ العلمِ والمعرفةِ .. واللهُ عليمٌ بالسرائر.

ومِن يومئذٍ نشأت هذه الطبقةُ من الأُوربيِّين الذين عُرفوا فيما بعد باسم (المستشرقين) وهم: أهمُّ وأعظم طبقة تمخَّضت عنها اليقظةُ الأوربيَّة،لأنهم جندُ المسيحيَّةِ الشماليَّة، الذين وهبوا أنفسَهم للجهاد الأكبر!، ورضُوا لأنفسهم أن يظلُّوا مغمورين في حياة بدأت تموج بالغنى والصيتِ الذائع، وحبسوا أنفسَهم بين الجدران المختفية وراء أكداسٍ من الكتب، مكتوبةٍ بلسانٍ غير لسان أمَمِهم التي ينتمون إليها،لا همَّ لهم إلا حيازةُ كنوز علم دار الإسلام بكل سبيل.

بفضل هولاءِ (المستشرقين) المتبتَّلين عن زخرف الحياة الدنيا، الذين كانت قلوبُهم تتوهجُ ناراً - على الإسلام وأهله – هي أعتى من كل ما في قلوب رُهبان الكنيسة، ولكنَّهم كانوا يملكون من القدرة الخارقة على مخالطة أهل الإسلام في ديارهم، تعلى وجوهَهم سيماءُ البراءة واللين والتواضع وسلامة الطوية والبِشْر، وبفضل هولاء وحدَهم، وبفضل ملاحظاتِهم التي جمعوها من السياحة في دار الإسلام ومن الكتب، وبذلها لملوك المسيحية الشمالية، نشأت طبقة الساسة – الذين يُعِدُّون ما استطاعوا من عدة لردِّ غائلة الإسلام ثم قهره في عقر دياره – وهم الذين عُرفوا فيما بعد باسم رجال ((الاستعمار)).

وبفضل هولاء وحدهم، وبفضل ملاحظاتهم التي زوَّدوا بها رهبان الكنيسة، ثارت حميَّةُ الرهبان، ونشأت الطائفةُ التي نذرت نفسها للقتال!! في سبيل المسيحية، وللدخول في قلب العالم الإسلامي لكي تُحوِّل مَنْ تستطيع تحويله عن دينه إلى الملة المسيحية، وان ينتهي الأمرُ إلى قهر الإسلام في عقر داره، وهكذا ظنوا يومئذ، وهذه الطائفة هي التي عُرفت فيما بعد باسم رجال ((التبشير)).

فهذه ثلاثةٌ متعاونةٌ متآزرةٌ متظاهرةٌ (الاستشراق، التبشير، الاستعمار) جميعهم يدٌ واحدة، وأهدافهم واحدة، ووسائلهم واحدة في القضاء على العالم الإسلامي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير