تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

.. وهكذا تهاوت في أوربة سدودُ الجهل، وانبثقت اليقظة، وفُتحت بعضُ مغاليقِ خزائن العلم، وانقشعت ظلمةُ ((القرون الوسطى)) واصطفت "كتائب الهمج" تزحف وفي أيديها مصابيح ينبعثُ منها بصيصٌ يضيءٌُ ليكشف غياهبَ الظلمات، وبالصبر، وبالجهد، وبالجرأة، وبالعزيمة وبنبذ التواني، صارت أوربةُ قوةً تمدُها فتوحُ العلم الجديد بما يزيدها بأساً وصرامة ... وصار في الأرض عالمان: عالَم في دار الإسلام مفتَّحةً عيونُهم نِيام، وعالمٌ من أوربة أيقاظاً عيونهم لا تنام!؟ وضعوا لهم قواعدَ راسخةً تجنبهم أخطاء المراحل السابقة في الصراع مع العالم الإسلامي، و كان على رأس هذه القواعد: تنحية السلاح جانباً، لأنه يستثير مالا يعلمون مغبته من سوء العاقبة،ثم العمل الدائب البصير الصامت الذي يتيح لهم تقليم الأظافر- أو خلعها من جذورها – التي نشبت في قلب أوربة من قبل طلائع العالم الإسلامي المظفرة متمثلة بـ (التُّرك).

وفضَّت المسيحيةُ عن نفسها قيودَ الحصار، وخرجت جحافلُها تجوبُ البحرَ وتنذرُ البرَّ بالدمار، انطلقت الأساطيلُ من شواطئ أوربةَ مزودة بالعُدة والعتاد والرجال الأشداء، والعلماء والرهبان، وهدفها أن تطوِّق دار الإسلام محيطة بها من شواطئ المغرب إلى شواطئ الهند، تتحسَّسُ مواطنَ الضعف في أقاليمها المتطرفة، فانقضُّوا على الضعيف والعاجز والغافل، وخادعوا ونافقوا، واستغفلوا وأرهبوا، واستضعفوا وسيطروا، واستنزفوا ونهبوا الكنوز المخبوءة في قلب دار الإسلام .. ولهيبٌ في القلوب لا تطفأ نارُه ... وفجأةً وبمعونة البحَّارين المسلمين العرب، عثر ((كولومبس)) على أرض الهنود الحمر

(أمريكا)، وما هو إلا قليل حتى تدفق السيل الجارف من أوربة يدفعه بريقُ الذهب والغنى، وملأ المغامرون القساة الأرض البكر، وزحفوا فيها واستباحوها، وسفحوا دماء الملايين سفحاً مبيراً، غدراً وخِسِّة، لا يردعهم عن ذلك رادع، وشفى كلُّ أوربي غليلاً كان في قلبه معداً لدار الإسلام،واتجهت أساطيلُهم إلى افريقية تختطف آلافاً مؤلفةً من الآمنين السود، مسلمين وغير مسلمين، رجالاً ونساءً وصغاراً.

هلك في هذه الرحلات آلافٌ كثيرة من المستضعفين تحت السياط، وتبقَّى آلاف قليلة لتكون تحت أيديهم بهائم مسخرة بالذل لعمارة الأرض، وظهر الفساد في البر والبحر، وبلغت أوربة مبلغاً يزيدها فجوراً وشراهةً وسفكاً للدماء، وغطرسةً فوق ذلك تزدادُ على الأيام تعالياً، وصارت أوربة عالماً مخيفاً مرهوبَ الجانب، تزداد كل يوم ثقافةً وعلماً، فهماً و يقظةً، وتجربةً وخبرةً في كلِّ خيرٍ وشر، وتزداد مع ذلك أيضا خبثاً و مكراً و غدراً بالآمنين، وهي مع ذلك كله تُعد حضارةً إنسانيةً عالمية!؟، ويزيدها إنسانيةً و عالميةً أنها جاءت مبشرة بدينٍ جديد، عقيدتُه مبنيةٌ على البغضاء والحقد والجشع و الغدر وسفك الدماء.

ومع هذه الأساطيل الفاجرة، خرجت من مكامنها أعداد وافرة من رجال يُجيدون اللسان العربي، ومنهم رهبان وغير رهبان، ركبوا البحر زرافات و وحداناً، هدفهم مقر دار الخلافة في ديار الإسلام

(تُركيَّة)، وغيرها من بلاد المسلمين، لبسوا من اجل ذلك كلَّ زِيٍّ، زيَّ التاجر والسائح والصديق الناصح، و زيَّ العابد المتبتِّل، وتوغلوا يستخرجون كلَ مخبوءٍ كان عنهم من أحوال دار الإسلام، أحوال عامته و خاصته، علمائه وجهَّاله، وحلمائه وسفهائه، جيوشه ورعيته، عبادته ولهوه، قوته وضعفه، حتى تدسَّسوا إلى أخبار النساء في خدورهن، فلم يتركوا شيئاً إلا خبروه وفتشوه وذاقوه، ومن هولاء و من خبرتهم ومن تجربتهم، خرجت أهم طبقة تمخضت عنها اليقظة الأوربية ((طبقة المستشرقين)) الكبار، وعلى علمهم وخبرتهم وتجاربهم، رست دعائم ((الاستعمار))، ورسخت قواعد ((التبشير)).

فالاستشراق: هو عين ((الاستعمار)) التي بها يبصر ويحدق، ويده التي بها يُحس ويبطش، ولولاه لظل الاستعمار في عمياءه يتخبط، ولولاه لاستبهمت عليه المسالك وهام في أودية الضلال، ومع تطاول السنين عليه، اكتسب لنفسه أعواناً من اليهود و شذَّاذ الآفاق من أهل الإسلام وغير دار الإسلام، يستأجرهم لتوسيع رقعةِ خبرته تارةً، ولبثِّ أفكارٍ مدروسةٍ بين جماهير دار الإسلام تارةً أخرى، للتمكن من إشعال نار الفتنة حين يقتضي الأمر،فتنةٌ تُفرق شمل الناس وتمزقهم وتشغلهم عن الكيد الخفي الذي يراد بهم.

يتبع ... بإذن الله تعالى

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير