تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

سأضرب مثلًا باتفاقية "كامب ديفيد"، تلك الاتفاقية الإلزامية التي مضى عليها نحو ثلاثين عامًا، والتي لم نسمع خلال تلك الثلاثين حكمًا شرعيًّا مؤصلًا ومفصلًا في بنودها وأحكامها الإلزامية من أي مؤسسة علمية، رسمية كانت أو غير رسمية، مع أن خطرها تخطى الحدود المصرية حتى وصل إلى جميع الدول العربية والإسلامية؛ إذ كانت تلك الاتفاقية نقطة البدء في جر مزيد من العرب إلى خيار الاستسلام، وما ترتب عليه من توجه إلى تطبيع العلاقات مع العدو الممعن في عدوانه والمجاهر بعداوته، في معاهدات أو علاقات أخرى "طبيعية" علنية أو سرية، آخرها ما قام به الممثلون "الوحيدون" في منظمة "التحرير" الفلسطينية.

الذين ألقوا البندقية وطلقوا القضية؟

قد يُقال: إن غياب كلمة أهل العلم والفتوى في تلك الاتفاقيات والمعاهدات وغيرها ما كان له أن يغير من الأمر شيئًا!! أقول: بل إن ذلك السكوت الممتد لثلاثة عقود هو الذي أغرى أطرافًا أخرى ـ حتى التي ليس لها حدود مع دولة اليهود ـ بأن يدخلوا في تلك السلم المخزية، بعد أن أمنوا ردة فعل الشعوب الملهية عما يُدبر لها، ويُبرم باسمها!!

خامسًا: ما ترتب على إبرام أمثال تلك المعاهدات على مستوى الشعوب عمليًّا، كان أخطر بكثير من أثر التوافق عليه نظريًّا على مستوى الساسة، فعلى الرغم من تعدي تلك الاتفاقات إجمالًا حدود الله وتخطيها لمرجعية كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقطعها لما أمر الله به أن يوصل من الأقوال والأفعال؛ إلا أنها استهدفت على المدى البعيد إنشاء واقع عملي يحول عدو المسلمين إلى ولي، ويمضي بالمعركة معه ـ رغم الهزائم والمظالم ـ إلى سلام ووئام.

وهو ما يجسده التوجه إلى "سياسات التطبيع" مع ذلك العدو، الذي وإن ظل عدوًا عند الأجيال الحاضرة، فالرهان قائم على تغيير البيئات عند الأجيال القادمة؛ حتى تقتنع شرائح منها بأن عدوها أصبح صديقًا، وأن التعامل "الطبيعي" معه هو شيء حتمي في ظل سلام شرق أوسطي، يتطور بالمزيد من التلاقح والتلاقي تحت المنظومة العلمانية.

وعندها يمكن أن تتسع جبهة المنافقين المنحازين إلى أعداء الأمة أكثر وأكثر؛ ليكونوا كهؤلاء الذين رأيناهم وسمعنا بهم أثناء أحداث غزة، وقبلها، وبعدها، يقفون في خندق المحاربين ضد المسلمين.

سياسات التطبيع بأشكالها وأنواعها، وبآثارها الضارة، وثمارها المرة، لم تجد من أهل العلم فتوى جماعية، أو بحوثًا شرعية، ولم تجد أيضًا من مشاهير الدعاة وطلبة العلم الشرعي ـ حسب اطلاعي ـ من يعد فيها دراسات مؤصلة، تتضمن نقولًا مفصلة في حكم أنواعها وأطرافها، وما يتعلق بإجراءات فرضها وتقنينها، وتطبيع مشاعر الأمة طلبًا للمزيد من تعميمها.

أمتنا في حاجة إلى تفصيل الأحكام في ذلك الفعل الشنيع المسمى بالتطبيع، ليظهر للناس أثر مصادمته لأصول في العقيدة، فضلًا عن مناقضته لمحكمات من الشريعة، بل ولمسلمات في المصالح الدنيوية، التي أثبتت العلاقات "الطبيعية"التي أقامتها بعض الدول مع اليهود، تعرض تلك الدول لأخطار داهمة ما دامت تلك العلاقات قائمة.

سادسًا: قضية "الشرعية"، التي لا يكف العلمانيون عن صرعة المطالبة باحترامها وصداع الخضوع لأحكامها، مرة باسم "الشرعية الدستورية والقانونية"، ومرة باسم "الشرعية الدولية والأممية"، ومرة باسم "الشرعية النظامية" لزعيم أو قائد أو نظام محلي أو إقليمي، كل هذه "الشرعيات"تحتاج إلى إعادة نظر في شرعيتها؛ لنبقي على الشرعي منها، ونسحب الشرعية مما لا يتوافق مع شريعتنا.

فالأصل في الامتثال والاحترام في ديننا؛ هو حدود الحلال والحرام، وهذا لا يُعرف ولا يُفرض إلا بوحي صادق، ودليل ناهض، وعلم صادر عن أمناء عدول، أما ما دون ذلك من "شرعيات"مفروضة فرضًا، فلابد لأن يكون للدين فيها كلمة، ولأهل العلم منها موقف.

وقد كان من عجيب أمر "الشرعيات"المفروضة مؤخرًا، أن أسبغ النظام العربي الشرعية على فاقد الشرعية "محمود عباس" في مؤتمر وزراء الخارجية العرب أثناء العدوان على غزة، مع أنه مع افتقاده للشرعية الإسلامية بخيانته للقضية؛ أصبح فاقدًا للشرعية القانونية والدستورية الوضعية بانتهاء مدته الرئاسية!!

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير