قلت له بالمناسبة ياصديقي أرسطو: هل ترى أن الفكر الديني فكر نصوصي يعاني من شح المضامين، أم هو فكر استنباطي يعاني من تمدد المعنى؟!
فقال لي: كلاهما .. كلاهما ..
فقلت له: حسناً .. كلاهما كلاهما .. وأهلا وسهلاً بالنقيضين في مجلس واحد، وأحسن الله عزاءنا في العقل والعقلانية!
ثم قال لي: ولكن بصراحة ليست هذه هي المشكلة، وإنما المشكلة الخطيرة فعلاً في التعامل مع هذا التراكم التراثي، هناك كارثة منهجية في التعامل مع هذا الموروث. أتدري ماهي ياخليل؟
قلت له: تفضل يا مصنع النقد العقلاني واشرح لي المشكلة!
قال: لا .. لا .. أنا أحدثك بجدية.
قلت له: حسناً .. وماهي المشكلة؟
فقال: صدقني –كما ذكرت لك- ليس لدي مشكلة فعلية مع قضية تمدد المعنى وكثرة الاستنباطات في الكتب التراثية الدينية، وإنما المشكلة أن الصحويين يرفضون أي نقد يوجهه المفكرون المبدعون للتراث، ويدعون في كتاباتهم إلى (قداسة التراث) والممانعة ضد نقده، وإذا تجرأ أحد على المساس بهذا المقدس فربما تورط في فتاوى تكفير وعزل اجتماعي. وهذه مشكلة فعلية وخطيرة، يجب أن نكون مرحبين بنقد التراث سواء كتب العقيدة أم الفقه أم التفسير أم الحديث أم أصول الفقه أم غيرها!
وبينما نحن نتسوق التقطت كتابين لأحد المعاصرين وأخذت أتصفحهما لأحسم قرار شرائهما، كان أحد الكتابين اسمه "نقد منهج المتأخرين في الحديث"، والثاني اسمه "الملحوظات العقدية على فتح الباري" .. لما شاهدني صاحبي أرسطو أقلب صفحاتهما بشغف ولهفة قال لي:
ياضيعة الأعمار .. مارأيت أكثر انشغالاً بالنقد من هؤلاء المطاوعة!! بالله عليك ياخليل انظر كيف لم يتركوا أحداً من علماء التراث إلا انتقدوه، فما كتبه أعلام التراث المتأخرين في مصطلح الحديث كابن حجر والسيوطي والسخاوي والألباني انتقدوه جذرياً، وليس نقد جزئيات، بل نقد منهجي، ورأو أنهم أطلقوا القواعد بدلاً من القرائن، كما في إشكاليات زيادة الثقة، ووصل المرسل، ووقف المرفوع، والتصحيح المطلق بتعدد الطرق، ونحوها، فقد قلبوا كل ماكتبه المتأخرون في المصطلح رأساً على عقب!!
وما كتبه أعلام التراث المتأخرين في أصول الفقه كالباقلاني والجويني والغزالي والرازي والآمدي انتقدوه جذرياً، وليس نقد جزئيات، بل نقد منهجي، فعابوا عليهم كثيراً من القواعد والمفاهيم ورأو أنها مستعارة من الثقافة المنطقية اليونانية ولاتعبر عن روح منهج النبي وأصحابه في فهم النصوص.
وأما كتب الحديث فأكثرها عندهم فيها الضعيف والساقط.
وأما كتب التفسير فلاتستطيع أن تجد تفسيراً واحداً يقبلون كل مافيه، فيقولون لك: هذا فيه إسرائيليات، وهذا فيه أحاديث وآثار ضعيفة، وهذا تفسير أدبي يصلح للتأملات الإيمانية والأخلاقية وليس تفسيراً علمياً الخ الخ. فلم يسلم منهم تفسير واحد!
وأما كتب الفقه فكلها عندهم "كتب مذهبية" لاحجة فيها، ويتهكمون بالفقهاء المذهبيين المعاصرين، ولايعولون في الفتيا على أي فقيه مذهبي معاصر، بل يجب عندهم أن يكون فقيهاً مستقلاً عن المذاهب!
وأما عقائد أعلام التراث، فأكثر كتب العقيدة التي تسمى "علم الكلام" فبالرغم من مافيها من إبداع عقلي وغزارة ذهنية فإنهم يذمونها ويردونها ويزعمون أنها لاتمت إلى عقيدة محمد وأصحابه بسبب.
ولايكاد يوجد مبدع من مبدعي التراث إلا وانتقدو عقيدته كابن رشد والشاطبي وابن خلدون وابن حزم والجويني والغزالي والجاحظ والزمخشري والكندي وابن باجه وابن طفيل وابن سينا الخ.
فهذا معتزلي، وهذا أشعري، وهذا ماتريدي، وهذا فيه تشيع، وهذا فيه تجهم، وهذا باطني، وهذا فيه تفلسف الخ
لقد تحول الصحويون في تعاملهم مع التراث إلى "فرامات نقدية" بدلاً من أن يكونوا قراء متسامحين مع هذا التراث!
تبسمتُ وأطرقت وأنا أرى صديقي أرسطو يتذكر هذه الشواهد .. ولما رآني أتبسم أدرك أننا عدنا للمربع الأول!
فقال لي وهو يضحك: هاااه .. شكلنا دخلنا في السيدين من جديد!
قلت: نعم .. نعم .. هذا ماحدث .. قبل قليل كنت تقول أن الصحويين يتبنون مفهوم (قداسة التراث) ويرفضون نقده، والآن تقول لي لم يترك الصحويون شيئاً في التراث إلا وانتقدوه بدأً من العقائد وحتى كتب أصول الفقه ومصطلح الحديث!
¥