الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون}.
أيها المسلمون: أنصح الناس للناس هم أهل الحسبة الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأخذون على أيدي السفهاء؛ لأنهم يحفظون المجتمعات من الضلال والانحراف، ويمنعون تنزل العذاب والعقوبات.
ومن نظر في سير الأنبياء عليهم السلام ظهرت له تلك الحقيقة؛ إذ إن الأنبياء عليهم السلام وهم يحتسبون على أقوامهم كانوا يعلنون فيهم أن الدافع إلى احتسابهم عليهم هو النصح لهم ليس إلا.
قال نوح عليه السلام وهو يدعو قومه {أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم} وقال هود عليه السلام {وأنا لكم ناصح أمين} وقال صالح شعيب عليهما السلام {ونصحت لكم}.
وأغش الناس للناس، وأخطرهم عليهم، هم من يقفون في وجه أهل الحسبة، ويودون نشر الفاحشة؛ لأنهم سبب انحراف الناس وضلالهم، وبسببهم تتنزل العقوبات من السماء، وكل الأمم السالفة التي أهلكت من قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام إنما أهلكوا بسبب إصرار المفسدين على إفسادهم، والحيلولة بين الرسل وبين الناس، وتضييق منافذ الإصلاح وإغلاقها، مع فتح أبواب الفساد على مصارعها.
والحجة التي يحتج بها أهل الفساد والإفساد على أفعالهم القبيحة في هذا العصر هي توسيع دائرة الحريات، واحترام خصوصيات الناس، وزعمهم أن الحسبة تدخل فيما لا يعني، سبحان الله!! ما أضعف عقولهم، وما أشد ضلالهم وانحرافهم؛ إذ كيف تكون الحسبة تدخلا فيما لا يعني وبسببها يحفظ المجتمع، وبزوالها يهلك الناس؟!
والحريات التي يريدها المفسدون هي الحريات التي تضمن لهم إلغاء الشريعة، وتعطيل أحكامها، والتسلط على عقول الناس وقلوبهم بأنواع الشبهات والشهوات؛ لنقلهم من الإيمان إلى الإلحاد، ومن الطهر والعفاف إلى الخنا والانحراف والشهوات، ومن أنواع الخير والإحسان، إلى دركات الشر والإثم والعدوان.
وتلك الحجة السامجة التي يحتج بها المفسدون في هذا العصر قد احتج بها قبلهم المعذبون من الأمم السالفة، فزعموا أن الرسل عليهم السلام يتدخلون فيما لا يعنيهم، وأنهم يحدون من حرياتهم، وينتهكون خصوصياتهم، فقال قوم شعيب له {أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو نفعل في أموالنا ما نشاء} أي: نريد أن نفعل في أموالنا ما نشاء، ونحن أحرار فيها، فلماذا تأمرنا وتنهانا؟ والمفسدون في هذا العصر يكررون تلك المقولة بصورة أو بأخرى، ويريدون أن يفعل الناس ما يشاءون دون قيود أو ضوابط دينية أو أخلاقية!!
إنها نفس الحجة التي احتج بها الأقدمون فكانت سببا في هلاكهم، وهلاك الناس معهم.
إن من نظر في سير الأنبياء عليهم السلام، والمعاصي التي احتسبوا على الناس فيها، ونهوهم عنها، يجد أنها معاص متنوعة، وإن كان الشرك موجودا في كل الأمم التي عذبت؛ ولذا أمر الرسل كلهم بالتوحيد ونهوا عن الشرك.
وكل المعاصي التي سلفت في الأمم الغابرة قد اجتمعت في الحضارة المعاصرة، وهي حرية بالهلاك والعذاب، مما يجعل التبعات على أهل الإيمان كبيرة في إنكار هذه المنكرات المجتمعة؛ رفعا للعذاب، وإصلاحا للناس، وإلا لهلكوا ببعض هذه الموبقات، فكيف إذا بجميعها؟!
ونجد أن كل مجال من مجالات المنكرات قد انتشر في أمة من الأمم السالفة دون الأخرى، فتصدى له نبي من أنبياء الله تعالى منكرا له، ومحتسبا على قومه فيه:
فَمَثَّلَ احتسابُ إبراهيم وموسى عليهما السلام على الطاغيتين المستكبرين مقاومة الفساد السياسي، ومكافحة الظلم والطغيان، والوقوف في وجوه الطغاة المتجبرين، سواء كانوا أفرادا أم دولا.
ومَثَّلَ احتسابُ هود وصالح عليهما السلام مقاومة الفساد العمراني والحضاري، والنهي عن الرفاهية والسرف في البنيان، والتباهي بالقوة، والبطش بالناس.
ومَثَّلَ احتساب لوط عليه السلام مقاومة الفساد الأخلاقي والاجتماعي، والمحافظة على طهر الناس وعفافهم.
¥