والرسل عليهم السلام جاءوا أقوامهم بما لم يعهدوا، ونهوهم عما تعودوا؛ ولذا أنكر المشركون ما جاءتهم به رسلهم، وقال قائلهم {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف:70] وأخبر الله تعالى عنهم أنهم قدَّموا ما توارثوه عن آبائهم على ما جاءتهم به رسلهم {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} [المائدة:104].
إن الظاهر من أحوال المشركين في كل الأمم السالفة أنهم ما رفضوا تنسك الأنبياء وتعبدهم، ولا أنكروا عليهم عدم مشاركتهم في شركهم، ولا ألزموهم بعبادة أصنامهم، وإنما أنكروا عليهم أمرهم بالمعروف الذي رأسه توحيد الله تعالى، ونهيهم عن المنكر الذي غايته شركهم بالله تعالى؛ مما يدل على أن ما يسمى في العصر الحاضر بالحرية الدينية كان موجودا عند المشركين، وهذا ما لا يفهمه كثير من الناس فيستغربونه وقد ينكرونه.
إن الرسل عليهم السلام ما نزلوا من السماء، ولا جاءوا إلى الأرض من غيرها، ولا نزحوا إلى قبائلهم من خارجها، بل هم من صليبة أقوامهم: ولدوا فيهم، وعاشوا بينهم، حتى أرسلهم الله تعالى إليهم، وقبل بعثهم أنبياء كانوا يرون أقوامهم على الشرك، وما كانت الرسل لتشرك بالله تعالى شيئا فقد عصمهم الله تعالى من الشرك قبل بعثتهم وبعدها، ولو قُدِّر وقوعُ الشرك منهم لاحتج به المشركون عليهم لما دعتهم رسلهم إلى التوحيد، ولقالوا لهم: أتنهوننا أن نعبد ما كنتم تعبدون معنا؟ ولما احتاج المشركون إلى إحالتهم على ما كان يعبد الآباء.
إن المشركين ما كان يجبرون الرسل قبل مبعثهم على عبادة أصنامهم وإلا لوجدت العداوة بين المشركين وبين الرسل قبل أن يبعثوا، ولنقل ذلك.
بل ما حكاه القرآن يدل على أن الرسل كانوا على وفاق مع أقوامهم قبل أن يأمروهم بالمعروف وينهوهم عن المنكر، ومن أدلة ذلك قول قوم صالح عليه السلام {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود:62].
فهذه تزكية منهم لصالح عليه السلام، وثناء عليه إلى أن أمرهم ونهاهم، فرفضوه، وتنكروا له، وانقلبوا عليه.
ونبينا محمد عليه الصلاة والسلام تحكي سيرته الخالدة أنه اجتنب المشركين وما يعبدون، وكان يتعبد لله تعالى في غار حراء، وما نُقل أن المشركين أنكروا ذلك عليه، أو ضايقوه في عبادته، أو ألزموه بشركهم.
بل كان عليه الصلاة والسلام محل إعجابهم وثنائهم، وموضع تقديرهم وثقتهم؛ حتى إنهم كانوا يستودعونه أماناتهم، ويُحكِّمونه بينهم، ولقبوه بالأمين.
وكان في مكة قبل المبعث بعض الحنفاء الذين بقوا على دين إبراهيم عليه السلام، ومنهم من تنصر وقرأ الإنجيل بالعبرانية كورقة بن نوفل، وما عُرف أن أهل الشرك من كبار قريش كانوا يؤذونهم، أو يجبرونهم على الشرك، أو يحولون بينهم وبين عبادتهم.
كل هذا يدل على أن المشركين كانوا يتحلَّون بما يسمى في هذا العصر بالحرية الدينية، وما نقموا على من يوحد الله تعالى أن يوحده إذا لم يأمرهم أو ينههم، كما يدل على أن الذي نقمه المشركون من رسلهم، وعارضوهم فيه، وآذوهم من أجله هو ما يسمى في هذا العصر بالتدخل في الخصوصيات، وهي التي أمر الشارع الحكيم رسله عليهم السلام أن يتدخلوا فيها بالأمر والنهي، فيأمروهم بكل معروف، وينهوهم عن كل منكر، وقد أنكر المشركون هذا الأمر والنهي بشدة، وحاربوا رسلهم من أجله، قال قوم شعيب عليه السلام له {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} [هود:87].
فهم ما نقموا عليه إلا تدخله في خصوصياتهم، وتقييده لحرياتهم في عباداتهم وأموالهم، وهذا ما يرى المشركون أنه عين الإفساد لأقوامهم، كما قال فرعون أخزاه الله تعالى {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ} [غافر:26].
¥