تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[نملتان في الفلفل ...]

ـ[أم هالة]ــــــــ[17 - 04 - 09, 01:49 ص]ـ

نملتان في الفلفل ... للدكتور زكي نجيب محمود

جلس الشيخ في دكانه محزونا، اعتمد رأسه على راحتيه و جعل يفكر: ماذا أنا صانع يا رباه في جحافل النمل التي تهجم على سكري في ظلمة الليل؟ إنها لتأكلني أكلا إذ هي تأكل قوت عيالي، و إني لعائل لأسرة أكاد أنوء بحملها الثقيل، لو كانت النَمِّال مما يرعى مبادئ الأخلاق، لناشدتها الضمائر ألا تسطو على ملك غيرها، فحرام عليها أن تستريح بياض النهار في أعشاشها، حتى إذا ما سترها الليل بعتمته، ملأت بطونها مما كدَّ غيرها في جمعه و كدح، حتى تندَّى منه العرق بالجبين.

لكن – و أسفاه- ليس للنمل أخلاق يُراعيها.

و تحير الشيخ في أمر هذا النمل، كيف يعرف موضع السكر و إنه لخبئ في علبة محكمة الغطاء، و إن الشيخ ليغير مكان العلبة كل مساء، فيضعها على الرف مرة، و تحت النضد مرة، و يكسوها باللفائف تارة، و يعلقها في الهواء طورا .. لكن النمل يعرف!!

و لمعت فكرة في رأس الشيخ كاد يثب لها في مقعده: أما و الله إني لأحمق مأفون، أضع إصبعي في الفخ حتى إذا ما ضغط الفخ على إصبعي، صرخت من ألم! ... ألم أكتب على الصناديق بيدي هذه بطاقات، تعلن عما في بطونها، فلمن كتبت –يا أحمق- هذه البطاقات إن لم تكن للنمل يقرؤها في الليل و إنه لذو بصر حديد، فيعرف موضع السكر من الدكان في حندس الليل! لأنزعن من فوري هذه البطاقات عن أماكنها، و كفاني من بلاهتي ما لقيت كفاني ... و نهض الرجل في حماسة لينزع .... لكن لا! لقد لمعت عيناه بفكرة أخرى، فكرة افترت لها شفتاه بابتسامة عريضة، ثم انفجرت بقهقهة عالية .. أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على أمره، و إن عُد النمل بالألوف لا بآحاد و أفراد؟ أأنا الرجل الذي يغلبه النمل على امره ثم لا ينتقم؟ فيم إذن كان مقامي في حلقات العلم أعواما إن قصرت بي عن ختام العلم فقد دنت منه؟! و يحك الليلة مني يا نمال!

و نزع الرجل في زهو الظافر بطاقة السكر ووضعها على علبة الفلفل و كتب الفلفل على علبة السكر.

ـ سيأتي النمل الليلة أسرابا كعهده، و سيقرأ العنوان فيظنه دالا على مضمون الكتاب، و سيدخل علبة الفلفل و في وهمه أنه سيجد حلاوة كل يوم، و ما كل ما يتمنى المرء (يا نمل) يدركه، تأتي الرياح (يا نمل) بما لا تشتهي السفن ..

و أوشكت الخطة أن يصيبها الفشل، إذ جاء النمل و لم يقرأ، بل شم و انصرف، إلا نملتين حفظتا القراءة في مدرسة من مدارس الإلزام، فقرأتا و ضحكتا من جهل الأخوات، و تسللتا إلى السكر الموهوم، فإذا داخل العلبة ديجور لم تعهداه فيما سلف من الليالي، و بينما هما تسعيان وراء الرزق، صدمت نملة منهما في بعض الطريق: ـ

ـ مالك الليلة ماذا دهاك؟

ـ عتمة لم أعهدها ها هنا يا أختاه.

ـ لست أرى في الأمر اختلافا عن المألوف.

ـ بل ألفت أن يتسرب من سماء هذا المكان شعاع ضئيل من الضوء يعكس شيئا من بياض، و إذا الأمر كله الليلة في عيني سواد في سواد، ثم ألفت أن أسير على منبسط فسيح، فإذا بي الليلة أدور مع موطئ القدم حيث يدور، ثم .. لست أدري يا أختاه ماذا دهاني، لعله مرض في جوفي تغيرت معه طبيعة دنياي ثم ألفت على اللسان حلاوة فإذا بالشيء يلسع الليلة لساني لسعا أليما، حتى ليكاد اللسان من حدة اللسع يحترق.

ـ لك الله يا مسكينة، ألا إن الأرض هي الأرض و السماء هي السماء، و المأكل كعهدنا طيب به حلو المذاق، غيري من جوفك تتغير الدنيا في عينيك.

ـ أواثقة أنت أننا في علبة السكر.

ـ قرأت العنوان بعيني، و أذوق الطعم الآن بلساني، و ليس إلى الشك عندي من سبيل. و فيم الريبة و السؤال؟ دونك المكتوب فاقرئيه، و ليست الرحلة إليه بشاقة و لا عسيرة.

ـ سأفعل، لا ارتيابا في صدق ما تقولين، و لكن ليطمئن قلبي.

و خرجت النملة إلى ظاهر العلبة ثم عادت و التقت بأختها بعد تعثر في الطريق و بحث في الثنايا هنا و هناك.

ـ صدقت، إنه السكر لا شك فيه.

ـ لا (يا أختاه) بل كل الشك فيه.

ـ و ي! ماذا تقولين؟ ماذا تظنين؟

ـ كأنه (يا أختاه) حبُّ فلفل، لأني أحس الان ما تحسين، فسواد شديد حالك يسد علي مسالك الطريق، و انبعاج في الأرض لا يكاد يمكنني من السير، ثم طعم لاذع يذيب اللسان و يمزق الأحشاء.

ـ لكنه السكر، و البدال لا يخطئ الترقيم.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير