ومَهْمَا يَكُنْ؛ فَلا تَحْزَنْ يا طَالِبَ العِلْمِ!، عَلَى ظُهُوْرِ الجَهْلِ، وقِلَّةِ العِلْمِ، وقَبْضِ العُلَمَاءِ، واتِّخَاذِ النَّاسِ رُؤوْسًا جُهَّالاً فَضَلُّوا وأضَلُّوا ... فَيَا هَذَا عَلَيْكَ بِزَادِ الأنْبِيَاءِ، وغِذَاءِ العُقَلاءِ: عِلْمٌ يَنْفَعٌ، وعَمَلٌ يُرْفَعُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى "إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِيْنَ" [المائدة27]. وكَذَا: "إلَيْه يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ والعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه" [فاطر10]، واعْلَمْ:"إنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أجْرَ المُحْسِنِيْنَ" [التوبة12].
* * *
وبَعْدُ؛ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لَكَ يا طَالِبَ العِلْمِ مَخْرَجًا؛ فَكُنْ رَابَعَ أرْبَعَةٍ: عَالِمًا، أو مُتَعَلَّمًا، أو مُسْتَمِعًا، أو مُحِبًّا، وأُعِيْذُكَ باللهِ أنْ تَكُنَ الخَامِسَ فَتَهْلَكَ!، وهُوَ مُعَادَاةُ أهْلِ العِلْمِ، أو بُغْضُهُم!
وهَاكَ مِنْ شَذَاتِ العِلْمِ وفَضَائِلِه، مَا قَالَهُ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:"تَعَلَّمُوا العِلْمَ فإنَّ تَعَلُّمَه للهِ خَشْيَةٌ، وطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، ومُدَارَسَتَهُ تَسْبِيْحٌ، والبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وتَعْلِيْمَه لِمَنْ لا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وبَذْلَهُ لأهْلِهِ قُرْبَةٌ!
لأنَّه مَعَالِمُ الحَلالِ والحَرَامِ، والأنِيْسُ فِي الوَحْشَةِ، والصَّاحِبُ فِي الخَلْوَةِ، والدَّلِيْلُ عَلَى السَّرَّاءِ والضَّرَّاءِ، والزَّيْنُ عِنْدَ الأخِلاَّءِ، والقُرْبُ عِنْدَ الغُرَبَاءِ.
يَرْفَعُ اللهُ بِه أقْوَامًا فَيَجْعَلَهُم فِي الخَلْقِ قُدَاةً يُقْتَدَى بِهِم، وأئِمَّةً فِي الخَلْقِ تُقْتَصُّ آثَارُهُم، ويُنْتَهَى إلى رَأيِهِم، وتَرْغَبُ المَلائِكَةُ فِي حُبِّهِم؛ بأجْنِحَتِهِم تَمْسَحُهُم، حَتَّى كُلُّ رَطِبٍ ويَابِسٍ لَهُم مُسْتَغْفِرٌ، حَتَّى حِيْتَانُ البَحْرِ وهَوَامُه، وسِبَاعُ البَرِّ وأنْعَامُه، والسَّمَاءُ ونُجُوْمُها؛ لأنَّ العِلْمَ حَيَاةُ القُلُوْبِ مِنَ العَمَى، ونُوْرُ الأبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، وقُوَّةُ الأبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ.
يَبْلُغُ بِه العَبْدُ مَنَازِلَ الأحْرَارِ ومُجَالَسَةَ المُلُوْكِ، والدَّرَجَاتِ العُلَى فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ، والفِكْرُ بِه يُعْدَلُ بالصِّيَامِ، ومُدَارَسَتُه بالقِيَامِ!
بِه يُطَاعُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وبِه يُعْبَدُ اللهُ عَزَّ وجَلَّ، وبِه تُوْصَلُ الأرْحَامُ، وبِه يُعْرَفُ الحَلالُ مِنَ الحَرَامِ، إمَامُ العَمَلِ، والعَمَلُ تَابِعُه، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، ويُحْرَمُهُ الأشْقِيَاءُ" () انْتَهَى.
* * *
فَلأجْلِ هَذَا؛ أحْبَبْتُ أنْ أطْرُقَ هَذِه الجَادَّةَ العِلْمِيَّةَ؛ عَسَانِي أدُلُّ السَّالِكَ، وأحُثُّ الهِمَمَ إلى طَرْقِ بَابِ العِلْمِ، دُوْنَمَا إعْيَاءٍ وكِلالٍ، وطُوْلٍ ومِلالٍ، قَدْ لا يُحَصِّلُ شَادِي العِلْمِ فِيْه كَبِيْرَ فَائِدَةٍ، أو عَظِيْمَ عَائِدَةٍ، أو غَيْرَه مِنْ مَبَاغِي العِلْمِ ومَنَارَاتِه؛ مِمَّا نَدَّتْ عَنْهُ أكْثَرُ أطَارِيْحِ أهْلِ زَمانِنَا؛ لِجَهْلِهِم بطَرَائِقِ الطَّلَبِ ومَدَارِجِهِ الآخِذَةِ برِقَابِ العِلْمِ؛ فَنًّا بَعْدَ فَنٍّ، وبَابًا قَبْلَ بَابٍ، وهَكَذا دَوَالَيْكَ مِمَّا هُوَ طَوْعُ يَدَيْكَ!
وهَذَا مَا ذَكَرَه ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ بِقَوْلِه: "الجَهْلُ بالطَّرِيْقِ وآفَاتِهِا والمَقْصُوْدِ: يُوْجِبُ التَّعَبَ الكَثِيْرَ مَعَ الفَائِدَةِ القَلِيْلَةِ" ()، وقَدْ قِيْلَ: مَنْ لَمْ يُتْقِنْ الأُصُوْلَ؛ حُرِمَ الوُصُوْلَ"، و"مَنْ حُرِمَ الدَّلِيْلَ، ضَلَّ السَّبِيْلَ"!
وعَنْ يُوْنُسَ بنِ يَزِيْدٍ قَالَ: قَالَ لِي ابْنُ شِهَابٍ: " يا يُوْنُسُ! لا تُكَابِرَ العِلْمَ، فإنَّمَا هُوَ أوْدِيَةٌ، فأيُّها أخَذَتْ فِيْه قَبْلَ أنْ تَبْلُغَهُ قُطِعَ بِكَ، ولَكِنْ خُذْهُ مَعَ اللَّيَالِي والأيَّامِ" ().
¥