ومِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُوْلُ: تَعَلُّمُ أصُوْلِ الفِقْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ؛ لأنَّه العِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ به الدَّلِيْلُ ومَرْتَبَتُه، وكَيْفِيَّةُ الاسْتِدَلالِ؟!
ثُمَّ قَالَ رَحِمَه اللهُ: إنَّ الفَرْضَ الَّذِي يَعُمُّ وُجُوْبُه كُلَّ أحَدٍ: هُوَ عِلْمُ الإيْمانِ وشَرَائِعِ الإسْلامِ، فَهَذا هُوَ الوَاجِبُ، وأمَّا مَا عَدَاهُ فإنْ تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُه عَلَيْه فَهُو مِنْ بَابِ مَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِه، ويَكُوْنُ الوَاجِبُ مِنْه القَدْرَ المُوْصِلَ إلَيْه دُوْنَ المسَائِلِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ لا يَفْتَقِرُ مَعْرِفَةُ الخِطَابِ وفَهْمُه إلَيْها.
فَلا يُطْلَقُ القَوْلُ بأنَّ عِلْمَ العَرَبِيَّةِ وَاجِبٌ عَلى الإطْلاقِ؛ إذْ الكَثِيْرُ مِنْه، ومِنْ مَسَائِلِه وبُحُوْثِه لا يَتَوَقَّفُ فَهْمُ كَلامِ اللهِ ورَسُوْلِه عَلَيْها، وكَذا أُصُوْلُ الفِقْهِ؛ القَدْرُ الَّذِي يَتَوَقَّفُ فَهْمُ الخِطَابِ عَلَيْهِ مِنْه تَجِبُ مَعْرِفَتُه دُوْنَ المسَائِلِ المُقَرَّرَةِ والأبْحَاثِ الَّتِي هِيَ فَضْلَةٌ؛ فَكَيْفَ يُقَالُ إنَّ تَعَلُّمَها وَاجِبٌ؟!
وبالجُمْلَةِ؛ فالمطْلُوْبُ الوَاجِبُ مِنَ العَبْدِ مِنَ العُلُوْمِ والأعْمالِ مَا إذا تَوَقَّفَ عَلى شَيءٍ مِنْهَا؛ كَانَ ذَلِكَ الشَّيءُ وَاجِبًا وُجُوْبَ الوَسَائِلِ، ومَعْلُوْمٌ أنَّ ذَلِكَ التَّوَقُّفَ يَخْتَلِفُ باخْتِلافِ الأشْخَاصِ والأزْمَانِ والألْسِنَةِ والأذْهَانِ، فَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مُقَدَّرٌ، واللهُ أعْلَمُ" () انْتَهَى.
ويَقُوْلُ الإمَامُ الذَّهَبِيُّ رَحِمَه اللهُ فِيْمَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ والكَلامِ عَنْه: "أُصُوْلُ الفِقْهِ لا حَاجَةَ لَكَ بِه يَا مُقَلِّدُ، ويَا مَنْ يَزْعُمُ أنَّ الاجْتِهَادَ قَدْ انْقَطَعَ!
ومَا بَقِيَ مُجْتَهِدٌ ولا فَائِدَةَ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ، إلاَّ أنْ يَصِيْرَ مُحَصِّلُهُ مُجْتَهِدًا بِه، فإذَا عَرَفَه ولَمْ يَفُكَّ تَقْلِيْدَ إمَامِهِ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا؛ بَلْ أتْعَبَ نَفْسَه ورَكَّبَ عَلَى نَفْسِه الحُجَّةَ فِي مَسَائِلَ، وإنْ كَانَ يَقْرَأُ لِتَحْصِيْلِ الوَظَائِفِ ولِيُقَالَ، فَهَذَا مِنَ الوَبَالِ، وهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الخَبَالِ" () انْتَهَى.
فانْظُرْ يَا رَعَاكَ اللهُ إلى قَوْلِه:"ومَا بَقِيَ مُجْتَهِدٌ ولا فَائِدَةَ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ، إلاَّ أنْ يَصِيْرَ مُحَصِّلُهُ مُجْتَهِدًا بِه"، لتَعْلَمَ أنَّ كَثِيْرًا مِنْ أهْلِ التَّخَصُّصِ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ قَدْ غَالَوْا وكَابَرُوا هَذَا العِلْمَ، وهَمْ مَعَ هَذَا لا يَتَجَاوَزُنَ فِي قِرَاءاتِهِم كُتُبَ الفِقْهِ المُدَوَّنَةِ، هَذَا إذَا عَلِمْنا أنَّ الاجْتِهَادَ المُطْلَقَ فِي زَمَانِنا مُنْدَثِرٌ بَيْنَ أهْلِه مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيْدٍ؛ فَلا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ باللهِ تَعَالَى!
ومِنْ خِلالِ مَا مَضَى؛ نَسْتَطِيْعُ أنْ نَقِفَ عَلَى بَعْضِ الأخْطَاءِ العِلْمِيَّةِ الَّتِي كَانَتْ حَصِيْلَةَ المُتَخَصِّصِيْنَ فِي عُلُوْمِ الآلَةِ باخْتِصَارِ:
1ـ أنَّ التَّخَصُّصَ والتَّفَنُّنَ فِي عُلُوْمِ الآلَةِ لا يَكُوْنُ إلاَّ لِمَنْ رَامَ دَرَجَةَ الاجْتِهَادِ، وإلاَّ وَقَعْنَا فِي حَيْصَ بَيْصَ، وهَذَا لا نَجِدُه عِنْدَ أهْلِ التَّخَصُّصِ مِنْ أهْلِ زَمَانِنا!
2ـ أنَّ كَثِيْرًا مِنَ المُتَخَصِّصِيْنَ فِي أُصُوْلِ الفِقْهِ (مَثَلاً) مِنْ أهْلِ مِصْرِنا فِي هَذِه البِلادِ (حَفِظَها اللهُ مِنْ كُلِّ سُوْءٍ) نَرَاهُم لا يَقْرَؤُوْنَ مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ غَالِبًا إلاَّ كُتُبَ الفِقْهِ الحَنْبَلِيَّةِ ابْتِدَاءً مِنْ "زَادِ المُسْتَقْنِعِ"، وانْتِهَاءً بـ"المُغْنِي"، ومَهْمَا اتَّسَعَتْ قِرَاءتُهُم لكُتُبِ الفِقْهِ الأُخْرَى، فإنَّهم أبْعَدُ مَا يَكُوْنُوْنَ عَنْ مَرَاتِبِ الاجْتِهَادِ.
¥