ـ[أبو البراء الثاني]ــــــــ[06 - 08 - 09, 03:19 ص]ـ
وهذا وصف كامل للسجن و أهله نسأل الله السلامة من شعر معروف الرصافي
زُر السجن في بغداد زورة راحم
زُر السجن في بغداد زورة راحم=لتَشهَد للأنكاد أفجع مشهد
محلّ به تهفو القلوب من الأسى=فإن زرتَه فاربط على القلب باليد
مربَّع سور قد أحاط بمثله=محيط بأعلى منه شِيدَ بقرمد
وقد وصلوا ما بين ثان وثالث=بمعقود سقف بالصخور مُشيَّد
وفي ثالث الأسوار تشجيك ساحةٌ=تمور بتيّار من الخسف مُزبِد
ومن وسط السور الشَماليّ تنتهي=إليها بمسدود الرتاجين مُوصَد
هي الساحة النكراء فيها تلاعبَتْ=مخاريق ضيم تخلِط الجِدّ بالدَد
ثلاثون متراً في جدار يحيطها=بسمكٍ زهاءِ العشر في الجو مُصعِد
تواصلت الأحزان في جنباتها=بحيث متى يبَلَ الأسى يَتَجدَّد
تَصَعَّدَ من جوف المراحيض فوقها=بخار إذا تَمرُرْ به الريح تَفْسُد
هناك يودّ المرء لوقاءَ نفسَه=وأطلقها من أسر عيشٍ مُنكَّد
فقف وسطها وانظر حوالَيْك دائراً=إلى حُجَر قامت على كل مُقْعَد
مقابر بالأحياء غصَّتْ لُحُودُها=بخمس مئين أنفس أو بأزيد
وقد عَمِيَتْ منها النوافذ والكُوى=فلم تكتحل من ضوء شمس بمروَد
تظنّ إذا صدرَ النهار دخلتَها=كأنّك في قِطع من الليل أسود
فلو كان للعُبّاد فيها إقامةٌ=لصلَّوا بها ظهراً صلاة التَهَجُّد
يزور هبوبُ الريح إلاّ فناءها=فلم تَحْظَ من وصل النسيم بمَوْعد
تَضيق بها الأنفاس حتى كأنما=على كل حيزوم صفائح جَلْمَد
وحتى كأن القوم شُدَّتْ رقابهم=بحبل خِناق مُحكَم الفتل مُحصَد
بها كل مخطوم الخشام مذلّلٍ=متى قِيد مجروراً إلى الضيم ينقد
يَبيت بها والهمّ ملءُ إهابه=بليلةِ مَنْبُول الحشا غير مُقصَد
يُميت بمكذوب العزاء نهاره=ويحيي الليالي غيرَ نوم مُشَرَّد
يَنُوءُ بأعباء الهوان مقيَّداً=ويكفيه أن لو كان غير مقيّد
وتَقْذِفهم تلك القبور بضغطها=عليهم لحرّ الساحة المتوقِّد
فيرفع بعض من حصير ظلالةً=ويجلس فيها جلسة المتعبّد
وليس تقيه الحرّ إلا تَعِلّةً=لنفس خلت من صبرها المتبدّد
وبالثوب بعض يستظِلُّ وبعضهم=بنسج لعاب الشمس في القَيْظ يرتدي
فمن كان منهم بالحصير مُظَّللاً=يعدّونه ربّ الطِراف الممدّد
تراهم نهار الصيف سُفْعاً كأنهم=أثافيّ أصلاها الطُهاة بمَوْقِد
وجوه عليها للشُحوب ملامح=تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد
وقد عمّهم قَيد التعاسة مُوثَقاً=فلم يتميّز مُطلَق عن مقيّد
فسيّدهم في عيشه مثل خادم=وخادمهم في ذُلّةِ مثل سيّد
يخوضون في مستنقع من روائح=خبائثَ مهما يَزْدَدِ الحرُّ تَزْدَد
تدور رؤس القوم من شمّ نَتْنها=فمَن يك منهم عادم الشمّ يُحسَد
تراهم سكارى في العذاب وما هم=سكارى ولكن من عذاب مُشدَّد
وتحسبَهم دوداً يعيش بحمأة=وما هو من دود بها متولِّد
ألا رب حرّ شاهد الحكم جائراً=يقود بنا قَوْد الذَلول المعبَّد
فقال ولم يَجهَر ونحن بمنتدىً=به غير مأمون الوشاية ينتدى
على أي حكم أن لأية حكمة=ببغداد ضاع الحقُّ من غير منشد
فأدنيت للنجوى فمي نحو سمعه=وقلت لأن العدل لم يتبغدد
رعى الله حيّاً مستباحاً كأنه=من الذُعر أسراب النَعام المطرَّد
وما صاحب البيت الحقير بناؤها=بأفزع من ربّ البّلاط الممرَّد
وما ذاك إلاّ أنهم قد تخاذلوا=ولم ينهضوا للخصم نهضة مُلِبد
فناموا عن الجُلَّى ونمتُ كنومهم=سوى نَوْحةٍ مني بشعر مغرِّد
وهل أنا إلا من أولئك أن مشوا=مشيت وأن يَقعُد أولئك أقعد
وكمُ رمتُ أيقاظاً فأعيا هُبُوبُهم=وكيف وعزم القوم شارب مُرقِد
نهوضاً نهوضاً أيها القوم للعلا=لتبنوا لكم بنيان مجدٍ مُوَطَّد
تقدمنا قوم فأبْعَدَ شوطُهم=وقد كان عنا شوطهم غيرَ مُبْعِد
وسدّ علينا الاعتشافُ طريقَنا=فأجحف بالغَوْريّ والمتنجِّد
أفي كل يوم يزحف الدهر نحونا=بجندٍ من الخطب الجليل مجنَّد
فيا ربّ نَفِّس من كروب عظيمة=ويا ربّ خفّف من عذاب مشدَّد
ـ[أبو البراء الثاني]ــــــــ[06 - 08 - 09, 03:32 ص]ـ
عاصمَ بنَ محمد الكاتب، لما حبسه أحمدُ بن عبد العزيز , عارض ابن الجهم في قصيدة ذكرت مساوئ السجن، وأتى فيها بنقيض ما قاله ابنُ الجهم:
قالت: حُبست، فقلت: خطبٌ أنكدُ أنحَى عليّ به الزمانُ المرصدُ
لو كنتُ حراً كانَ سِربي مطلَقاً ما كنتُ أُؤخَذُ عنوةً وأُقيّدُ
أوْ كنتُ كالسَّيفِ المهنَّدِ لم أكنْ وقتَ الشّديدةِ والكَريهةِ أُغمَدُ
أوْ كنتُ كاللّيث الهَصُور لَما رعَتْ فيّ الذئابُ وجذوتيْ تَتَوقّدُ
مَن قال: إنّ الحبسَ بيتُ كَرامةٍ فمُكاشرٌ في قولهِ مُتَجَلِّدُ
ما الحبسُ إلاّ بيتُ كلِّ مَهَانَةٍ ومَذلّةٍ ومكارِهٍ ما تنفَدُ
إن زارَني فيه العدوُّ فشامِتٌ يُبدي التوجُّعَ تارَةً ويفنّدُ
أو زارني فيه الصَّديقُ فمُوْجعٌ يذرِي الدُّموعَ بزفرةٍ تتَردَّدُ
يَكفِيك أنّ الحبسَ بيتٌ لا تَرى أحداً عليهِ مِنَ الخلائقِ يُحسَدُ!
عِشنا بخيرٍ برهةً فكَبَا بنا ريبُ الزّمان وصَرفُه المتردِّدُ
قصرتْ خطاي وما كبرتُ وإنما قصرتْ لأني في الحَدِيدِ مصفَّدُ
في مُطْبقٍ فيه النهارُ مُشاكِلٌ للَّيلِ والظُّلُماتِ فيهِ سَرمَدُ
تمضي اللياليْ لا أذوق لرَقدةٍ طَعْماً .. فكيفَ حياةُ مَن لا يَرقُدُ
فتقولُ لي عينيْ: إلى كمْ أسهرتْ؟ ويقولُ لي قلبيْ: إلى كمْ أكمدُ؟
وغِذايَ بعْدَ الصّوم ماءٌ مفردٌ كمْ عيشُ من يغذُوْهُ ماءٌ مفردُ؟!
وإذا نهضتُ إلى الصلاةِ تهجُّراً جذبتْ قيوديْ ركبتيَّ فأَسْجُدُ
فإلى متى هذا الشقاءُ مؤكَّدٌ؟ وإلى متى هذا البلاءُ مجدَّدُ؟
يا ربِّ، فارحمْ غُربتي وَتَلاَفَنِيْ إنّيْ غريبٌ مفرَدُ مُتلدّدُ
¥