تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

هذا، قوله -صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصبغ في النار صبغة، ثم يُقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قَطُّ؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط» (5).

فمتى رغَّب العبد نفسه بثمار التعبد، ورهَّبها من عاقبة الانغماس في الشهوات طاوعته في الإعراض عن الدنيا، بل وتلذذت بمشاق العمل الصالح والإقبال على الله تعالى، فـ: (الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان ـ مع كونه بعيد الأرجاء، ثقيل الأعباء، محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أَزِمَّة الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف) (6).

فعلى العبد متى أراد إتيان طاعة أن يستحضر الثواب المترتب عليها والعقاب الذي يناله تاركها؛ ليكون ذلك معواناً له في مغالبته لنفسه وقهره لها.

? رابعاً: قصر الأمل:

ترقُّب الموت وتصوُّر أهواله والعلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء حياة المرء من أنفع الأمور للقلب وأعظم معينات التعبُّد؛ فهو يعلي الهمة، ويزهِّد في الدنيا، ويبعث على الجد في العمل، ويحث على اغتنام الوقت، وانتهاز الفرص.

ولذا جاءت النصوص حافلة به ومنبهة عليه، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]، وقوله ـ سبحانه ـ: {قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 8]، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «أكثِروا ذكر هاذم اللذات؛ فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه» (7). وعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكِّر الآخرة» (8).

أما الآثار فقد امتلأت بالتذكير به والحث عليه؛ فعن مطرِّف ابن عبد الله قال: (القبر منزل بين الدنيا والآخرة؛ فمن نزله بزاد ارتحل به إلى الآخرة، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر) (9)، وقال الأوزاعي: (من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير) (10)، وقال مالك بن مِغْوَل: (من قصر أمله هان عليه عيشه) (11)، وقال الداراني: (ينبغي للعبد المعني بنفسه أن يميت العاجلة الزائلة المتعقبة بالآفات من قلبه بذكر الموت وما وراء الموت من الأهوال والحساب ووقوفه بين يدي الجبار) (12)، وقال النضر بن المنذر: (زوروا الآخرة بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهمكم، وتوسدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة، فاختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر) (13).

ولما كان الغالب على عامة الخلق طول الأمل ورجاء البقاء في هذه الدنيا، ونسيان أنها دار سفر وموطن امتحان، والغفلة عن الغاية العظمى من الخلق، وإهمال التوبة وعمل الآخرة، جاءت النصوص محذرة من هذا الوضع، ومنبهة إلى خطورة استمرار المرء في السير في طريق الهلكة، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3]، وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل» (1).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير