تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويحتاج المسلم الذي يريد أن يجدد إسلامه ويتوب توبة الإحسان أن ينظر في سيرة من سبقوه، وحازوا قصب السبق في كل فضيلة؛ فعندما يطالع سيرهم: يقف على نماذج رائعة في استغلال الوقت، واستثمار العمر، ومبادرة الأجل بالأعمال الصالحة، وترتيب الأعمال حسب الأولوية، والموازنة بين العبوديات، والشمول في فهم الدين، واليقين العظيم في الجزاء، والبعد عن موجبات النقمة والعذاب، ثم ينظر إلى نفسه، فيجدها بعيدة عن كل ذلك، فتتحرك في نفسه غبطة محمودة تحمله على منافستهم في مقاماتهم، والاقتداء بهم في أخلاقهم وأعمالهم، وقد كتب علماؤنا كتب التاريخ والتراجم لهذا الغرض؛ حتى تبقى التجارب الناجحة في تطبيق الإسلام محفوظة، يستشهد بها الواعظ والخطيب والمربي والداعية والمدرس والشاعر والكاتب، كلّ في مجاله وموضوعه، وهذه مقتطفات من كتاب صيد الخاطر للشيخ عبد الرحمن بن الجوزي المتوفى سنة 597هـ، نوردها مثالا لهذه السيرة النموذجية (*) يقول (2):» تأملت نفسي بالإضافة إلى عشيرتي الذين انفقوا أعمارهم في اكتساب الدنيا، وأنفقت زمن الصفوة والشباب في طلب العلم، فرأيتني لم يفتني مما نالوه إلا ما لو حصل لي لندمت عليه، ثم تأملت حالي: فإذا عيشي في الدنيا أجود من عيشهم، وجاهي بين الناس أعلى من جاههم، وما نلته من معرفة العلم لا يقاوم، وما طالت طريق أدت إلى صديق ـ كما يقال ـ، وقد كنت في حلاوة طلبي للعلم ألقى من الشدائد ما هو عندي أحلى من العسل؛ لأجل ما أرجو وأطلب «.

"كنت في زمن الصبا آخذ معي أرغفة يابسة، فأخرج إلى طلب الحديث، وأقعد على نهر عيسى في ضواحي بغداد، فلا أقدر على أكلها إلا عند الماء، فكلما أكلت لقمة شربت عليها، وعين همتي لا ترى إلا تحصيل العلم، وأثمر عندي ذلك من المعاملة ما لا يدرك بالعلم، حتى إنني أذكر في زمان الصبوة ووقت الغلمة والعزبة: قدرتي على أشياء كانت النفس تتوق إليها توقان العطشان إلى الماء الزلال، ولم يمنعني عنها إلا ما أثمر عندي من خوف الله (عز وجل)، ولولا خطايا لا يخلو منها بشر ... لقد أخاف على نفسي العجب، غير أنه (عز وجل) صانني وعلمني وأطلعني من أسرار العلم على معرفته وإيثار الخلوة به، حتى لو حضر معي معروف الكرخي وبشر الحافي لرأيتهما زحمة «.

وقد رباني (سبحانه) منذ كنت طفلاً، فإن أبي مات وأنا لا أعقل به، والأم لم تلتفت إليّ، فركّز في طبعي حب العلم، ومازال يوقعني على المهم فالمهم، ويحملني إلى من يحملني على الأصوب حتى قوّم أمري ...

ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مئتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مئتين، وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل ... «.

هذه نشأة عالم مسلم وكلها تصون وعفاف، وعلم نافع وعمل صالح، ومع ذلك: كثيراً ما يؤنب نفسه، ويرى أنه لم يسلم بعد إسلاماً جيداً، يقول رحمه الله (تعالى) (3):

"تفكرت في نفسي يوماً محققاً، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن ... ولقد تفكرتُ في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت، ولا يعتقد معتقد أنها من كبائر الذنوب حتى يظن بي ما يظن في الفساق، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي، وقعت بتأويلات فاسدة ... أف لنفسي! وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلم وما عبق بها من فضيلة، إن نُوظِرَتْ شَمَخَتْ، وإن نوصحت تعجرفت، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم وسقوط الغراب على الجيف ... أف والله مني اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها!، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن إخلاقي وأنا بين الأحباب ... وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو عرفوني بحق معرفتي ما دفنوني ... والله لأنادين على نفسي نداء المكشِفين معايب الأعداء، ولأنوحن نوح الثاكلين للأبناء ...

واحسرتاه على عُمْر انقضى فيما لا يطابق الرضى، واحرماني من مقامات الرجال الفطناء، يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله وشماتة العدو بي، واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عَليّ، واخذلاني عند إقامة الحجة، سخر ـ والله ـ مني الشيطان وأنا الفطن «.

ثم يختم هذه المعاتبة بقوله:» اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار «.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير