فعذرًا و شكرًا لاصحاب البرقيات و الرسائل .....
صحيح أنه:
ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة * * * يُواسيك أو يُسْلِيك أو يتوجَّعُ
ولكن لا مواساة في الموت, والسَّلْو مُخَدَّرٌ أثَرُه سريع الزوال.
والتّوجع يُشْكر ولكن لا ينفع شيئا!!
وأغلقت عليّ بابي، وكلما سألوا عني ابْتَغى أهلي المعاذير, يصرفونهم عن المجيء, ومجيئهم فضل منهم, و لكني لم أكن أستطيع أن أتكلم في الموضوع.
لم أرِدْ أن تكون مصيبتي مضغة الأهواء, ولا مجالا لإظهار البيان, إنها مصيبتي وحدي، فدعوني أتجرَّعها وحدي على مَهَلٍ.
ثم فتحتُ بابي, وجعلت أُكلِّم مَنْ جاءني, جاءني كثير ممن أعرفه ويعرفني وممن يعرفني ولا أعرفه؟
وجعلت أتكلم في كل موضوع إلا الموضوع الذي جاؤوا من أجله! واستبقيتُ أحزاني لي, و حدَّثْتُهم كل حديث، حتى لقد أوردتُ نُكَتًا - يعني فوائد- ونوادر!!!
أتحسبون ذلك من شذوذ الأدباء؟ أم من المخالفات التي يريد أصحابها أن يُعْرَفوا بها؟
لا والله، ولكن الأمر ما قلتُ لكم.
كنتُ أضحك، وأضْحِك القوم! وقلبي وكل خلية في جسدي تبكي!!
فما كل ضاحك مسرور:
لا تحسبوا أن رقصي بينكم طربا * * * فالطير يرقص مذبوحا من الألم!!
إني لأتصوّر الآن حياتها كلها مرحلة مرحلة, و يوما يوما، تمر أمامي
متعاقبة كأنها شريط أراه بعيني.
لقد ذكرتُ مولدها، وكانت ثانية بناتي, ولقد كنتُ أتمنّى أن يكون - يعني أول أولاده - ذَكَرًا!
وقد أعددتُ له أحلى الأسماء!
ما خطر على بالي أن يكون أنثى!
وسمَّيْتُها عنان – هي بنته الكبرى - وولِدَتْ بعدها بسنتين بنان.
اللهم ارحمها.وهذه أول مرة أو الثانية التي أقول فيها: اللهم ارحمها!!
وإني لأرجوا الرحمة لها، ولكني لا أستطيع أن أتصوَّر موتها!!
ولمَّا صار عمرها أربع سنوات ونصف السنة أصرَّتْ على أنْ تذهب إلى المدرسة مع أختها, فسعيتُ أن تُقْبَل من غير تسجل رسميًّا.
فلما كان يوم الامتحان ووزِّعتْ عَلَماتها المدرسية، وقد كتب لها ظاهريا لتسرَّ بها ولم تسجِّل عليها.
قلت هيه؟ ماذا حدث؟
فقفَزَتْ مبتهجة مسرورة، وقالت بلهجتها السريعة الكلمات, متلاحقة الألفاظ:
بابا: كلها أصفار أصفار أصفار!!
تحسب الأصفار هي خير ما يُنَال؟!
وماذا يهم الآن بعدما فارقت الدنيا أكانت أصفارًا أم كانت عشرات؟
وماذا ينفع المسافر الذي ودَّع بيته إلى غير عودة, وخلَّف متاعه وأثاثه؟
ماذا ينفع طراز فرش البيت ولونه وشكله؟ ... ).
وكتب زوجها المجاهد عصام العطار يقول:
(وقد بلغت محبّة علي الطنطاوي لي، وثقته بي، وبلغت أُخُوَّتنا وصداقتنا ذروتها العالية عندما اختارني زوجًا لابنته: بنان، وتجاوزَتْ هذه الأخُوّةُ والصّداقةُ كل ذروة من الذُّرَى عندما استشهدت بنان الحبيبة في: 17/ 03/1981م، في مدينة: (آخن) في ألمانيا.
فالتقتْ منه ومني إلى الأبد: جراحٌ بجراح، ودموعٌ بدموع، وذكريات بذكريات، ودعواتٌ بدعوات.
ولم تندمل قطّ جراح علي الطنطاوي لفقد بنان، ولم تندمل جراحي، ولم يرقأ دمعه، ولم يرقأ دمعي، ولم يسكت حزنه، ولم يسكت حزني، إلى أن اختاره الله إلى جواره.
[ولقد] كتبَ – يعني علي الطنطاوي - في الحلقة «199» (من ذكرياته)
بعد سنوات من استشهاد ابنته، بمناسبة يوم عيدٍ [فقال]:
«أنا أكتب هذه الحلقة يوم العيد. ما على ألسنة الناس إلا التهنئات فيها الأمل الحلو، وما في قلبي إلا ذكرياتٌ فيها الألم المُرّ .. فأنَّىَ لي الآن، وهذا يومُ عيد، أنْ أقوم بهذا الذي كنتُ أراه واجباً عليّ؟
كيف أصِل ُإلى القبريْن الذَّيْن ضمّا أحبَّ اثنين إليّ: أمّي وأبي، وبيني وبينهما ما بين مكّة والشّام!
وكيف أصل إلى القبر الثاوي في مدينة (آخن) في ألمانيا، في مقبرة لا أعرف اسمها ولا مكانها؟؟
ما كان يخطر في بالي يوماً أن يكْزِنَ في قائمة مَنْ أزور أجداثَهم: بِنْتي!!
ويا ليتني استطعتُ أن أفديَها بنفسي، وأن أكون أنا المقتولَ دونها؟
وهل في الدّنيا أبٌ لا يفتدي بنفسه بِنْتَه؟ إذن لمُتُّ مرّة واحدة ثم لم أذُق بعدها الموت أبداً!
بينما أنا أموت الآن كل يوم مرّة أو مرّتين، أموت كلّما خطرَتْ ذكراها على قلبي!»
¥