تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ثم قال عصام العطار عن الشيخ الطنطاوي: (وفي أيّامه الأخيرة، وهو في غرفة العناية المركّزة بين الحضور والغياب، كان يُحِسّ مَن يحفُّون بسريره من بناته وأصهاره وخُلَّصِ إخوانه، أنه يفتقد بينهم شخصًا لا يراه؟

ويُرمز إليهم رمزًا واضحاً إلى بنان، ولا يُسعِفُه اللسان، وارتفعت يدُه لتعانق حفيده «أيمن» ابن بِنْتَه الشهيدة - وقد حضر إليه من ألمانيا - عندما رآه.

ثمّ سقطت اليد الواهنة على السرير، وافْترَّتْ شفتاه عن ابتسامة حزينة سعيدةٍ حلوةٍ، امتزج فيها الحزن والسرور والشكوى، ونطقت عيناه وأسارير وجهه بما لا يُوصف من الحنان والشكر والأسى، مما لا يعبّر عنه – كما قالوا – قلمٌ ولا لغةٌ ولا كلام ... ).

قلت أنا أبو المظفر السناري كاتب هذا المقال:

كلما قرأت هذا الحديث للشيخ الطنطاوي عن ابنته «بنان» أشعر أن الأرض لا تحملني!

وأكاد أُحْصَر عن الكلام وينعقد لساني!

وتعتريني قشعريرة يهتزُّ لها كياني! وينكسر لأجلها أعلام جسماني!

وأحسُّ أن كبدي كأنه يتقطَّع، وأن نِيَاط قلبي كأنها تتمزَّع!

وأن الوجود قد صغر في عيني حتى لا أكاد أرى أحدًا!

وتهون الدنيا في نفسي حتى لا أجد للذيذها حلاوة! ولا لجميلها طلاوة!

ولقد تذكَّرت هذا الحديث – قبل أيام – عند غروب الشمس في ساعة الإفطار، وقد حضر الطعام والشراب، فوالله ما استطعتُ أن أستسيغ لقمة واحدة!

وكأن لا أرى أمامي إلا ظلامًا دامسًا، وقبرًا رامِسًا!

وقد فاضت الدموع كأنها الغيث المِدْرار! وقمتُ عن الطعام وليس في جوفي غير الأسى والمرار!

وما أرى هذا: إلا رحمة يقذف بها الله في قلب من يشاء من عباده.

وقد قال عصام العطار يرثي زوجته:

بنان ياجبهةَ الإسلام دامية * * * مازال جرحك في قلبي نزيفَ دمٍبنان

يا صورة الإخلاص رائعةً * * * ويا منال الفِدَى والنُّبْل والكَرَمِ

عِشْنا شريدَيْن عن أهلٍ وعن وطنٍ * * * ملاحماً من صراع النور والقِيَمِ

الكيد يرصدنا في كل مُنْعطَفٍ * * * والموت يرقبنا في كل مُقْتحمِ

والجرح في الصدر من أعدائنا نَفِذٌ * * * والجرح في الظهر من صُدْقاننا العَدمُ. * * * * * * * *

وكأني لو مُدَّتْ الأنفاس بالمجاهدة «بنان» دقائق معدودات - بعد رميها بالرصاص - لكان لسان حالها يقول لأبيها – بعدما علمتْ بحزنه عليها، ومرضه لغيابها -:

ما ساءني ألمي .. ولكن ساءني ... زفراتُ حُزْنك في الهواء تطيرُ

بالله مهلا .. ما لِقَلْبي أن يرى ... منك المدامعَ في العيون تثورُ

إني أرى دون السحاب بشائراً ... قد أقبلتْ بين الغمام تسيرُ

تلك الملائكُ لا تَسَلْ عن حُسْنها ... جاءتْ ركائبُها بها والحورُ

فكأنهم لِزِفاف روحي قد أتوا ... والحور فوقي كالبدور تدورُ

معهم لِتجْهيزي: ثيابٌ سندسٌ ... ولِغسْلِ دمعي: عنْبرٌ وكفورُ

أبتاه لا تغْفلْ زيارةَ مرقدي ... يوماً لئلاَّ يجزعَ المقبورُ

فأنا الوحيدة رَهْنَ قبرٍ مظلمٍ ... أمسيتُ فيه .. وخاطري مقهورُ

أبتاه قد حلَّ الفراق فليْتنا ... وَافىََ بنا قبل الرحيل: نذيرُ!

*******

وكأني أرى لسان حال أبيها يرد على ابنته ويقول:

فأجبْتُها والدمع يَحْرقُ مُقْلتي ... والقلب ينزفُ والمصاب كبيرُ

بِنْتاه ياروحي ومُقْلةَ ناظري ... وجمالَ نفْسي إنْ عَراهُ فُتورُ

يا بسْمةً كانتْ على الثَّغْر الذي ... ما إنْ بدا فاحتْ هناك عُطورُ

قد كنتِ لي نور الحياة وشمسها ... فغدوتُ أعمى في الظلام يسيرُ

ضحكاتُ فرحُكِ لا تزال تهزُّني ... وتُطيلُ أنَّاتِ الْجَوَىَ وتُثِيرُ

دقَّاتُ قلبُكِ في الفؤاد طوارقٌ ... يصْدعْنَ نفسي والإلهُ خبيرُ

تلك المحاسن في التراب تغيَّبتْ ... وجمالها في قبرها مَدْثورُ

بنتاهُ قد عظم المصاب وإنني ... أبداً على العهد القديم أسيرُ

كأسُ المنيَّةِ قد أصابكِ بغْتةً ... فَشَرَبْتِ ماء الموتِ وهو مريرُ

قد كان لا يحلو غيابُكٍ ساعةً ... كيف التَسَلِّي والغيابُ دهورُ

ياليتني قد كنتُ قبلكِ ثاوياً ... حُفَرَ الترابِ فَيَشْتفي المصْدُورُ

ما طاب عيشي في الحياة حبيبتي ... مُذْ غاب بدرُ جمالكِ المستورُ

كبدي يسيل مرارة أبداً وإنْ ... مرَّتْ عليَّ صوارفٌ وعُصورُ

إنْ قيل صبراً .. قلتُ قد غربتْ له ... شمسي وغاب ضياؤها والنورُ

أو قيل رفْقاً .. قلتُ كيف وهذه ... أمواتُ فرْحِي ما لهنَّ نشورُ

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير