ويستَحَبّ صلاة المصلي إلى سترةٍ ودنوُّه منها ولو لم يخشَ مارًّا، وإن أراد أحدٌ المرور بين يديه فله منعُه، فإن أبى فلَه دفعُه، فإن أبي فلَه المبالغةُ في قهرِه عن المرور بما لا يفضِي إلى الفتنةِ وفسادِ الصلاة، فعن أبي سعيد الخدريّ قال: قال رسول الله: ((إذا صلّى أحدُكم فليصلِّ إلى سترة، وليدنُ منها، ولا يدع أحدًا يمرُّ بينه وبينها، فإذا جاء أحدٌ يمرّ فليقاتله فإنّه شيطان)) أخرجه أبو داود وابن ماجه.
ويحرُم المرور بين يدَيِ المصلّي حتى ولو لم يجِدِ المارّ مَساغًا وسبيلاً غيرَه، إلاّ لضرورة أو مشقّة عظيمة لا يمكِن دفعُها؛ لما روى أبو جهيم الأنصاريّ قال: قال رسول الله: ((لو يعلم المارّ بَين يديِ المصلّي ماذا عليه لكان أن يقفَ أربعين خيرًا له من أن يمرَّ بين يديه))، قال أبو النضر: لا أدرِي قال: أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة.
أيّها المسلمون، وعلى قاصِد المسجد أن لاَ يؤذِيَ إخوانه المصلّين بتخطِّي رقابهم ومضايَقَتهم ومزاحمَتِهم ومحاولةِ اقتحام الصفّ عليهم مع تعذُّر ذلك بسبَبِ الضيق والازدحام الشديد، أو بالتشويشِ عليهم بالجهر بالقراءةِ والدعاء، فعن أبي سعيد الخدريّ قال: اعتكف رسول الله في المسجدِ، فسمعهم يجهرون بالقراءةِ، فكشف السترَ فقال: ((ألا إنَّ كلَّكم مناجٍ ربَّه، فلا يؤذِيَنَّ بعضكم بعضًا، ولا يرفَع بعضكم على بَعضٍ في القراءة)) أو قال: ((في الصلاة)) أخرجه أحمد وأبو داود.
ومن التشويشِ والإيذاء الذي عمَّ وطمَّ في مساجدِ المسلمين وقطَعَ عليهم خشوعَهم وسكونهم ما يصدُر من أجهزةِ الجوّال اليومَ من المقاطع الغنائيّة والنغمات الموسيقيّة والأصوات المطرِبَة التي آذت المسلمين أيّما إيذاء، فعَلى كل مسلم يخشى ربَّه ويخاف عقوبتَه أن لا يدنِّسَ بيوتَ الله التي بُنيَت للذكرِ والصلاة وقراءةِ القرآن بهذه النَّغَمات المحرمة والأجراس الشيطانيّة، وعليه أن يسارع في محوِها والتخلُّص من شرِّها وإثمها.
جعلني الله وإيّاكم من الهداة المهتدين المتَّبعين لسنّة سيد المرسلين، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمينَ من كلّ ذنب وخطيئَة، فاستغفِروه إنه كان للأوّابين غفورًا.
الخطبة الثانية
الحمد على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهَد أنَّ نبيَّنا وسيِّدنا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمّا بعد: فيا أيّها المسلمون، اتّقوا الله وراقبوه، وأطيعوه ولا تعصوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ [التوبة: 119].
أيّها المسلمين، وممّا تُصان عنه المساجد إنشادُ الضالة والبيعُ والشراء، فعن أبي هريرةَ أنَّ رسول الله قال: ((إذا رَأَيتم من يبيعُ أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَك، وإذا رأيتم من ينشُد ضالّة فقولوا: لا ردَّ الله عَليك)) أخرجه الترمذيّ.
ويجب أن يُصان المسجد عن الأقوال الرذيلَة والأحاديثِ السيّئة واللَّغط والأصوات المرتفعة، قال سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى: "من جَلَس في المجلس فإنما يجالِس ربَّه، فما حقُّه أن يقولَ إلا خيرًا".
والحيضُ حدَث يمنَعُ اللّبثَ في المسجدِ على الصحيح من قولي العلَماء؛ لحديثِ أمِّ عطيّةَ رضي الله عنها أنها سمعت النبي يقول: ((ويعتَزِل الحُيَّضُ المصلّى)) أخرجه البخاري. ويباح لها العُبورُ للحَاجَة مِن أخذِ شيءٍ أو تركِه، فعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسول الله: ((ناولِيني الخمرةَ مِنَ المسجد))، فقلتُ: إني حائض! فقال: ((إنَّ حيضَتَك ليسَت في يدِك)) أخرجه مسلم.
والجنابةُ حدَث يمنع اللبثَ في المسجدِ أيضًا، ويُباح له العبور لحاجةٍ؛ لقولِه تعالى: وَلا جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء: 43].
¥