تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ومِن طريف ما يجده القارئ كذلك مبثوثا في بطون (الأثبات) و (المشيخات) التي كان يتداولها بعض علماء الجزائر في القرون المتأخِّرة، روايتهم عن الجنِّي المشهور بالقاضي أبي محمَّد عبد الرَّحمن شمهروش، وهي شخصية أقلُّ ما يمكن أن يعبَّر عنها بأنَّها أسطورة من نسج الخيال، ودليلٌ على الانحطاط السَّحيق الذي بلغته الأمَّة بل علماؤها في تلك الأزمان، إذ لا يُعقل أن يروي هذا الجنِّي ـ الصَّحابي في زعمهم ـ عن الإمام البخاري مباشرة، ثمَّ لا يورده العلماء في معاجم وطبقات المحدِّثين؟ ثمَّ كيف تسوِّغ لهم عقولهم ظهوره صدفة على مسرح الرِّواية وتحديث بعض العلماء وعقد المجالس معهم؟ ويا فوز مَن أدرك العلوَّ منهم بنيل إجازة منه خاصَّة، بل وصل الأمر عند بعضهم إلى أبعد من ذلك فاحتجَّ على وجوده وألَّف كتبا ورسائل على غرار ما فعله الشَّيخ عبد الحي الكتاني الذي صنَّف كتابين ينتصر فيهما لقضيَّته، الأوَّل سمَّاه: (مواهب الرَّحمن في صحبة القاضي أبي محمَّد عبد الرَّحمن) يعني (شمهروش)، والثّاني تحت عنوان: (المحاسن الفاشية عن الآثار الشَّمهروشية)، ليصل الجهل ببعضهم فيدَّعي حضور جنازة هذا الجنِّي المزعوم المختلق، وهكذا تستحوذ الخرافات على العقول فتصير الأبدان والبلدان لقمة سائغة لكلِّ عدوّ ماكر، ولعلَّ أن يكون انتشار مثل هذه المظاهر الخرافية قد ساهم بقدر كبير في انقطاع الرِّواية بهذا البلد وعزوف النَّاس عن رواية هذا الكتاب، واندراج أسمائهم ضمن سلسلة الإسناد.

10) خير خلف لخير سلف:

من علماء الجزائر الذين بقيت أسماؤهم مخلَّدة ضمن سلسلة الإسناد ونالوا شرف رواية كتاب (صحيح البخاري):

أ) الشيخ محمَّد شارف:

وهو مِن بقايا العلماء الذين حضروا مثل هذه المجالس، فإنَّه وحسب ما أخبرنا به فقد حضر بعض مجالس البخاري التي كان يعقدها الشَّيخ محمود كحول ابن دالي (مفتي العاصمة)، وسألناه مراراً هل له إجازة في روايته فأنكر ذلك، والعجيب أنَّ بعض أهل المشرق يدَّعي أنَّ الشَّيخ أجازه في روايته.

ب) الشَّيخ عبد الرَّحمن الجيلالي:

وهو من جملة علماء الجزائر الذين رَووا (صحيح البخاري) ولهم فيه إجازة، إذ يرويه مباشرة عن شيخه الشَّيخ عبد الحليم ابن سماية (رحمه الله)، وهو الآن متشدِّدٌ إلى الغاية في الإجازة.

ت) الشَّيخ الدُّكتور عبد الرَّحمن طالب:

زرناه السَّنة الماضية بمكتبه بمدينة وهران، وأخبرنا بأنَّه يروي (صحيح البخاري) وغيره من كتب الحديث عن شيخه الشيخ بخالد بن كابو، عن الشيخ بلقاسم بن كابو، عن الشيخ علي بن عبد الرَّحمن (مفتي وهران)، عن الشيخ ابن الحرَّار الجزائري، بسنده إلى البخاري، والدُّكتور طالب الآن في حالة صحِّية يحتاج إلى رعاية.

ج) الشَّيخ محمد بن زين العابدين الكُنتي:

من علماء الهقار الذين ما زالوا يدرِّسون كتب الحديث رواية ودراية بولاية تمنراست، وهو من ذرية الفاتح العظيم الجليل عقبة بن نافع، وسليل عائلة علمية مشهورة، يروي (البخاري) عن عمِّه عن والده عن حبيب الله بن عبد الله ابن مايابى الشَّنقيطي صاحب كتاب (زاد المسلم)، وله أسانيد أخرى في رواية (البخاري).

11) رأيٌ في الإجازة:

من الطرق والأساليب التي كان يعتمدها العلماء في رواية كتب الحديث خاصَّة، طريقة الإجازة، وهي أن يقول عالمٌ له رواية في كتاب لطالب متأهِّل يريد أن يندرج اسمه ضمن سلسلة الإسناد، يقول له: أجزتك أن ترويَ عنِّي هذا الكتاب بسندي إلى صاحبه (أي: مؤلِّفه)، وهي طريقة انتشر بها (صحيح البخاري) بين أفراد مجتمعنا، وذاع صيته، غير أنَّ أفضل وسيلة وأنجع طريقة لروايته هي أن يسمعه الطالب جميعا وفي مجالس متعدِّدة عن شيخه.

12) رأي الشَّيخ الإبراهيمي في ذلك:

ولعلَّ مِن أشدِّ النَّاقمين على هذه الطريقة (أي: الإجازة) في عصرنا الحديث هو الشَّيخ محمَّد البشير الإبراهيمي (رحمه الله) الذي يرى بأنَّ انتشار مثل هذه الأساليب ينشر في الأمَّة فنَّ التكاسل والتثاؤب والتَّعالم، ويذهب برونق العلم وبهائه، ويساعد على اختلاط الدَّخيل بالأصيل، وهو رأيٌ سديد، ولو أدرك الشَّيخ عصرنا هذا وسمع بأنَّ الإجازة تعطى وتؤخذ عبر الأنترنت لشدَّد أكثر وأكثر.

13) ما هكذا يا سعد ..... :

شيء جميل أن يفكِّر بعض المسؤولين في إعادة إحياء قراءة هذا الكتاب العظيم بمساجد الجزائر، وعملٌ بارٌّ أن تَصدر تعليمات إلى الأئمَّة في وقت سابق تحثُّهم على ذلك، ولكن لو أخذ المسئولون هذا الأمر بجدِّيَّة أكثر لعملوا على توفير أرضية قانونية، وأخرى علمية، بل قبل ذلك تهيَّئ الأسباب والظروف الخاصَّة لإنجاح مثل هذه المشاريع، أمَّا أن يبقى هذا الأمر هكذا مِن غير هيئة علمية تُشرف عليه وتسهر على تكوين مَن يقوم به ويعمل على ترشيد أهله، فلا ينبغي أن نكذب على أنفسنا ونظهر للنَّاس على شاشة التلفزيون في ليلة القدر من كلِّ سنة (ختمة البخاري) على المباشر، يحظرها كبار المسؤولين في الدَّولة، وهي ربما الوحيدة عبر تراب الوطن، والتي ما يزال يحتفظ بقراءتها شيخٌ جليلٌ طاعنٌ في السِّنِّ الشَّيخ ابن يوسف (حفظه الله).

إنَّ إحياء قراءة (صحيح البخاري) بالمساجد الكبيرة ـ على الأقلّ ـ هو مِن أعظم الإنجازات التي ينبغي أن يفكِّر فيه أهل الرأي والتَّدبير، وإنَّ حضور العامة في مثل هذه المجالس هو أسلوبٌ حضاريٌّ وثَّقافي، زيادة على أنَّه عبادة وسلوك ديني، وفي إحياء مثل هذه المظاهر يتوحَّد النَّاس في الفكر، وتنشر المفاهيم الصَّحيحة للدِّين من مصدر اتَّفق أهل الإسلام قاطبة على أنَّه أصحُّ كتاب بعد كتاب الله تعالى.

الشروق أون لاين

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير