والملاحظ أن كثيرًا من الخطباء ممن لا يراعون مثل هذا التقسيم والتنظيم تنحصر خطبهم في موضوعات قليلة. ولربما أن بعضهم لم يتعرض لموضوع من هذه الموضوعات الكلية المهمة طيلة حياته الخطابية التي قد تمتد إلى عشرات السنوات، والسبب أن كثيرًا من الموضوعات قد تغيب عن باله إذا لم يكن لديه خطبة مكتوبة يسير عليها.< o:p>
ومن الملاحظ أيضًا: أن كثيرًا من الخطباء يطرح موضوعات عامة، لا يتأثر بها المصلون، ولا يتفاعلون معها، ولربما كانت معلوماتهم فيها أثرى من معلومات الخطيب؛ فمثلاً في الحديث عن القيامة وأحوالها تجد أن كثيرًا من الخطباء يريدون استيعاب يوم القيامة بأحواله، وما يجري فيه في خطبة واحدة. وهذا غير ممكن، ويؤيد إلى التطويل والتشعب والمشقة على السامعين، كما يؤدي إلى العمومية والسطحية في الطرح، وضعف المعالجة كم هو مشاهد. فيوم القيامة كألف سنة مما تعدون كما هو نص القرآن؛ فكيف يريد الخطيب أن يختزل الحديث عن أحداث ألف سنة في نصف ساعة أو أقل؟ ! لكن لو قسم أحواله وأهواله، وخصّ كل حال منها بخطبة، لكان أعمق في طرحه ومعالجته، وأوسع في معلوماته، وأكثر فائدة وتأثيرًا في السامعين، وهكذا يقال في بقية الموضوعات.< o:p>
تتابع الخطب في موضوع واحد:< o:p>
يحلو لبعض الخطباء التركيز على موضوع من الموضوعات العامة، وعمل خطب كثيرة فيه تطرح تباعًا لفترة تطول أحيانًا وتمتد إلى سنوات، وتقصر أحيانًا بحسب ما عنده من مادة علمية في الموضوع الذي يطرحه.< o:p>
وكثير ممن يختطُّ هذه الطريقة ينوه في آخر الخطبة بأنه سيكمل بقية الموضوع في الخطبة التالية، ويرى أصحاب هذا المسلك أنه مفيد من جوانب عدة:< o:p>
1 ـ تشويق السامعين إلى الجمعة القادمة.< o:p>
2 ـ ربط موضوعات الخطب بعضها ببعض.< o:p>
3 ـ أن طرح موضوع كلي بهذا التسلسل أنفع للناس فتكون الخطبة درسًا علميًا إضافة إلى كونها خطبة، وأعرف من الخطباء من حصر خطبه في التفسير فقط سنوات عدة قد تزيد على عشر سنوات، وغيره حصرها في السيرة النبوية وهكذا.< o:p>
وبعضهم يأخذ جانبًا معينًا: كموضوع تربية الأولاد، أو أشراط الساعة، أو نحو ذلك، ويخطب فيه عشر خطب متتابعة أو أكثر، ثم ينتقل إلى موضوع آخر.< o:p>
خطأ الجمود على مواضيع معينة:< o:p>
والذي يظهر لي أن الجمود على فن من الفنون: كالتفسير، أو السيرة، أو على موضوع من الموضوعات؛ بحيث تكون الخطب فيه متوالية ليس حسنًا لما يلي:< o:p>
1 ـ أنه غير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم أقف فيما اطلعت عليه من سنته أنه كان يقول لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ: سنكمل في الخطبة القادمة، أو موضوع الخطبة القادمة كذا، أو كان يذكر موضوعات متوالية في فن واحد، بل المحفوظ من هديه صلى الله عليه وسلم أنه يذكر ما يحتاج الناس إليه، وما يصلح شؤونهم، وهذا يكون متنوعًا في الغالب، لأن حاجات الناس مختلفة باختلاف أفهامهم واهتماماتهم وأعمالهم، قال ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ: 'وكان يعلم أصحابه في خطبته قواعد الإسلام وشرائعه، ويأمرهم وينهاهم في خطبته إذا عرض لهم أمر، وكان يأمرهم بمقتضى الحال في خطبته، فإذا رأى منهم ذا فاقة وحاجة أمرهم بالصدقة وحضهم عليها'.< o:p>
وقد يُعْتَرَضُ على هذا بأن أساليب الخطبة ووسائلها، والطريقة التي يختارها الخطيب اجتهادية، وليست توقيفية حتى يشترط أن يكون كل شيء فيها مأثورًا، وهذا محتمل، ولا سيما أن الفقهاء ـ فيما أعلم ـ لم يشترطوا تجنب ذلك في الخطبة لما ذكروا أركان وشروط الجمعة والخطبة.< o:p>
وقد يجاب عن هذا الاعتراض بأن دواعيه موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله، والقاعدة أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا ترك شيئًا مع توافر دواعي العمل به عُلم أنه قصد تركه، ولعل الأمر واسع في هذه المسألة، ولها حظ كبير من الاجتهاد والنظر.< o:p>
2 ـ أنه قد يؤدي إلى عكس ما أراده الخطيب من التشويق؛ لأنهم عرفوا الموضوع الذي سيخطب فيه سلفًا، والإنسان بطبعه يميل إلى اكتشاف المجهول، ويحب المفاجأة في مثل هذا الأمر.< o:p>
¥