الهادي بلخياط الذي كان قد تاب على يد ابنها سعيد ثم رجع إلى الغناء مع محافظته على
الصلوات وترك الكثير من المنكرات، فقالت له وهي على فراشها وتتحجب منه، لقد رأيتك
في المنام وأنا أقول لك: يا عبد الهادي، (ألم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر
الله وما نزل من الحق .. ) كيف تعود إلى الموسيقى والغناء بعد أن ذقت حلاوة الإيمان
ولذة مناجاة الله، فبكت وبكى عبد الهادي بلخياط الذي تأثر من كلامها. بعد ذلك
قالت لابنها: يا بني إني أرى أن الأجل قد اقترب، خذني إلى مكة حتى أموت فيها.
فقال لها ابنها: يا والدتي، مكة ليس فيها فقط الموت، بل فيها زمزم وفيها الشفاء
واستجابة الدعاء. فقالت له نعم، فيها استجابة الدعاء وقد دعوت ربي كي أموت وأدفن
فيها، فخذني إلى مكة. وبتوفيق الله تعالى أخذ سعيد والدته إلى مكة رفقة أخته التي
كانت طول الوقت في خدمة أمها، بمجرد وصولهم مع بداية شهر ذي القعدة، اعتمروا،
وبدأت تتردد على المسجد الحرام وهي على عربة تدفعها بها ابنتها، إلى أن وصل موسم
الحج، فقالت لابنها الذي كان يسافر ثم يرجع إليها: يا بُنَيَّ، أريد أن يختم
الله علي بحجة، فحاول ابنها إقناعها بأنها مريضة ولا تستطيع القيام بالمناسك وأن
الله سيأجرها على نيتها وبالأخص أنها حجت مرارا، فأصرَّت على أن تحج، فيسر الله
لها الحج، ولم يبق عليها من المناسك إلا طواف الإفاضة، وكانت تقول: أنا ليس علي
طواف وداع، لأني لن أخرج من مكة وسأموت فيها بإذن الله، فحقق الله لها رغبتها
وأعطاها سُؤْلَهَا، وبعد مرور حوالي شهر على موسم الحج، اتصلت (غيثة) أخت سعيد
بأخيها الذي كان موجودا بدولة الإمارات، فقالت له أَسْرِعْ بالمجيء فإن أمي
تُحْتَضَرْ، فكانت تدخل في غيبوبة ثم تعود، وبمجرد ما تعود من الغيبوبة كانت تقول
لابنتها، اعطني حجر التيمم وأعطني المسواك كي أصلي قبل أن يخرج علي وقت الصلاة،
وقبل ثلاثة أيام من وفاتها، كانت في تمام وعيها، فجلست وغسلت لها ابنتها وألبستها
(عباءة) جديدة تلبسها لأول مرة، عندما رآها ابنها وقد تحسن حالها قال لها ما
رأيك يا والدتي أن تطوفي طواف الإفاضة حتى تُكملي حجك؟ فأخذها هو وأخته بالعربة،
فطافت طواف الإفاضة وهي تدعو الله بالبكاء، وتدعو لأبنائها بالصلاح، ولم تنس كل
من وصاها بالدعاء، بل كانت تدعو حتى للذين لم يطلبوا منها الدعاء، وبمجرد ما أتمت
الطواف وصلَّت ركعتين خلف المقام وهي جالسة على العربة، أغمي عليها فأخذها ابنها
وأخته إلى السكن الذي كان في برج قريب جدا من الحرم، وقبل خروجهم من المسجد الحرام
وأثناء المرور أمام الكعبة ما بين الحجر الأسود والركن اليماني أفاقت ثم قالت
لابنها وابنتها: أوقفاني هنا .. فأوقفاها، فتوجهت بوجهها إلى الكعبة ورفعت يديها
وبدأت تدعو بالبكاء، ثم قالت: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، سألتُ الله
أن أموت في مكة فاستجاب لي، ما أحلاها من موتة. ولم تكن تعلم عندما طلبت الوقوف
في ذلك المكان أنه بعد ثلاثة أيام سيوضع جثمانها لكي يُصَلَّى عليها بالضبط في نفس
المكان الذي وقفت فيه، كان ذلك اليوم يوم َ خميس، صلت صلاة صبح الجمعة على فراشها
بالإيماء، ثم دخلت في غيبوبة، وكلما أفاقت طلبت كي تتيمم للصلاة وتلح على المسواك
، وبمجرد ما تُكبر تكبيرة الإحرام تغيب مرة أخرى، وهكذا إلى مساء يوم الأحد، وعند
وصول ابنها محمد، كانت ابنتها تقول لها: أمي .. أمي .. هذا أخي محمد قد وصل،
ففتحت عينيها لآخر مرة كي ترى ابنها، فدمعت عيناها عند رؤيته ثم أغمضتهما إلى
الأبد، بقيت تلك الليلة في غيبوبة تامة، إلى منتصف الليل، وكان أحد أصدقاء ابنها
سعيد في زيارة له في غرفة مجاورة وكان طبيبا، وقبل أن ينصرف، طلب منه ابنها أن
يطلع على وضع والدته، وبمجرد ما رآها الدكتور وهي ترمش عينيها بسرعة مفرطة قال
لابنها: لا نوم الليلة، لقد بدأها النَّزْعُ، فتوضأ وجلس عند رأسها وبدأ يقرأ
سورة (يس)، فتوقف عن القراءة عندما رآها تحرك شفتيها، فبدأت تقول بصوت خافت: (
اللهم هون علي سكرات الموت .. اللهم هون علي سكرات الموت .. ) تقولها مرارا، ثم هتف
لها ابنها في أذنها قائلا: لا إله إلا الله .. لا إله إلا الله .. يكررها إلى أن
¥