حركت شفتيها مرة أخرى قائلة: بتقطع: لا .. إله .. إلا .. الله. بقيت تكررها حوالي
أربع ساعات وابنها يقرأ سورة يس إلى آخرها ثم يبدؤها من أولها، فكان عندما يختم
السورة ويريد أن يبدأها من أولها، كانت تقول أوليس الذي خلق السماوات والأرض
بقادر على أن يخلق مثلهم) وكأنها تطلب منه أن يعيد القراءة من هنا، فكان يفعل
كلما أعادت قراءة الآية. لاحظ ابنها سعيد أنها تحرك رجلها اليمنى بسرعة مفرطة، علم
أن الروح بدأت تخرج من الجسم ابتداء من القدم، فبقيت تردد قول: لا إله إلا الله،
إلى أن أذن الأذان الأول في المسجد الحرام في الرابعة صباحا والدقيقة الخامسة، وقد
هدأت رجلها، وبلغت الروح إلى صدرها، أيقظ سعيد أخاه محمد الذي كان يظهر عليه
التعب، وأيقظ أخته التي كانت متكئة برأسها على فراش والدتها، حتى أخذها النوم من
كثرة التعب، أيقظهما وأخبرهما أن والدتهم تتلفظ أنفاسها الأخيرة. وليقضي الله أمرا
كان مفعولا، ويستجيب الله لأم سعيد دعوة قديمة كانت منسية، تَذَكَّرَهَا محمد
فيما بعد، وهي أنها سألت الله مرة قائلة: اللهم اقبض روحي في مكة وأبنائي ساجدون
لك في بيتك الحرام، ليقضي الله هذا الأمر قال سعيد لأخيه محمد: اسبقني إلى الحرم
، وسأبقى بجانب الوالدة إلى أن تقام الصلاة. بقيت تردد لا إله إلا الله دون توقف،
إلى أن أقيمت الصلاة في الخامسة والدقيقة الخامسة، فجمع سعيد لوالدته ساقَيْهَا
اللذين كانا متفرقين بعد خروج الروح منهما، وقَبَّلَ رِجْلَهَا لآخر مرة، وتركها
في الغرغرة وبلغت الروح إلى الترقوتين، وأوصى أخته أن تذكرها بلا إله إلا الله إذا
سكتت عن ترديدها، وقال لها إذا فاضت روحها فقولي إنا لله وإنا إليه راجعون، وادعي
بخير فإن الملائكة تُؤَمِّنُ على دعائك، وسآتي مباشرة بعد الصلاة. فخرج سعيد
لتأدية صلاة الصبح في المسجد الحرام، فإذا بإمام الحرم الشيخ سعود الشريم يقرأ: (
كلا إذا بلغت التراقي * وقيل من راق * وظن أن الفراق * والتفت الساق بالساق * إلى
ربك يومئذ المساق *) فذرفت عيناه بالدموع، أدرك الركعة الأولى مع الجماعة، وفي
آخر سجدة في الصلاة، رفعت أم سعيد صوتها قائلة: لا إله إلا الله، ثم شخص بصرها
إلى السماء وفاضت روحها، وإنا لله وإنا إليه راجعون، ماتت الأم الحنون التي كانت
حزينة على أبنائها، بل كان حزنها على كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت
تدعو لكل المسلمين، ماتت التي كانت تقوم الليل وتدعو لأبنائها، وكان سعيد الداعية
كلما كانت خطبته ستنقل على أمواج قناة الشارقة الفضائية، يتصل بوالدته ويسألها
الدعاء بأن يسدده الله في دعوته، ويجعل الأثر في كلامه، ويجعل كلامه حجة له لا
عليه. وأول خطبة خطبها الشيخ سعيد بعد وفاة والدته، كانت في افتتاح مسجد جديد
بالشارقة، وهو مسجد (المغفرة) في شهر محرم 1423 هجرية، أبريل / نيسان 2002 م،
وقبل أن يرتقي المنبر للخطبة، استحضر أنه أول مرة سيخطب الجمعة ووالدته ميتة،
فقال في نفسه: ماتت التي كانت تدعو لي ثم فاضت عيناه، ثم تذكر أن الذي كان يستجيب
لدعائها حيٌّ لا يموت، وتذكر قول أبي بكر رضي الله عنه عند وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم: من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله
حي لا يموت، فدعا الله قائلا: اللهم إني أتوسل إليك بِبِرِّي لوالدتي أن تفتح علي
ما يُرضيك عني، (هذا من التوسل المشروع الذي لا خلاف فيه، وهو التوسل بصالح
الأعمال، وبِرُّ الوالدين من أهمِّها وأعظمِها) فكانت أول خطبة يبكي فيها الشيخ
سعيد من بدايتها، بل أبكى المشاهدين الذين تابعوا الخطبة عن طريق القنوات الفضائية
، حيث نُقلت مباشرة على قناة الشارقة وأعادت بثها قنوات أخرى، وكذلك أبكى كل
الحاضرين في المسجد بما فيهم حاكم الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي الذي عُرف
بِرِقَّةِ القلب، والذي قال ذات مرة للشيخ صالح بن حميد إمام وخطيب المسجد الحرام
وحاليا رئيس مجلس الشورى بالمملكة العربية السعودية عندما كان في زيارة للشارقة،
قال له الشيخ سلطان: الشيخ سعيد، كلما دعا أبكاني. وعلى ذكر الشيخ صالح بن حميد
، فإنه كان يتابع باهتمام بالغ أخبار أم سعيد خلال فترة مرضها، وكذلك الشيخ عبد
الرحمن السديس إمام وخطيب المسجد الحرام، بالإضافة إلى أن أول من عزى الشيخ سعيد
في والدته، هو الشيخ سعود الشريم، حيث كان ذلك مباشرة بعد صلاة الصبح التي توفيت
أم سعيد في آخرها.
عندما خرجت أم سعيد من بيتها قاصدة مكة المكرمة كي تموت فيها، كان خروجها لله وفي
الله، وربنا عز وجل هو القائل: (ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم
يدركه الموت فقد وقع أجره على الله). اللهم إنا نسألك شهادة في سبيلك وميتة في
بلد رسولك.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كتبها: سلمان سعيد الزياني (باستعانة الوالد ومراجعته)
منقول
¥