بعد أن استقروا جميعاً فى السجن ومكثوا فيه زماناً تعايشوا فيه وتآنس بعضهم إلى بعض فيه (قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الآخر إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
وهكذا ... جاءت شهادة الفتيين شريكى يوسف فى السجن لتترجم عملياً على أرض الواقع ما ذكره الله من قبل وحكم به بسابق علمه على يوسف عندما قال فيه (وكذلك نجزى المحسنين)
لقد شهد بشهادة الله فى إحسان يوسف كل من خالطهم يوسف من الأعداء أوالأصحاب (والده – امرأة العزيز – النسوة – صاحبا السجن – الملك – الأخوة) ... وكفى بالله شهيدا.
(قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّى إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ* وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ* يا صَاحِبَيِ السِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَءَابَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
وعلى الفور أجابهما يوسف مقدماً بين يديه التعريف بنفسه لا على الفخر والعجب بل ليكون حجة ودليلاً على صدق كلامه ... مؤكداً لهما صواب رؤيتهما فيه وفى أنهما سألا عالماً وأصابا هدفاً مستقيماً مبرهناً على ذلك بأمثلة عينية حسية كإنبائهم الساعة بما سيرزقانه من طعام فى الغيب المستقبلى ... وبعد أن عرف بعلمه كدليل شاهد على صدقه رد كل علمه إلى تعليم ربه إياه وتبرأ من حظ نفسه بالكلية وأرجع الفضل كله إلى مولاه.
وبدأ يوسف التعريف بالله سبحانه وتوجيه الأنظار إليه والتنبيه إليه ومن ثم الدعوة إليه مبتدأًًًًًًًً بصفة الربوبية وذلك أن صفات الربوبية هى أول ما يعرف الله بها نفسه لعباده فيعرفوه بها من تجلى صفاتها عليهم وعلى الكون كله فيحبوه ويؤمنوا به رباً منعماً واهباً أهل للشكر بالثناء والعرفان ... ومن ثم ليعرفوه من خلال كتبه ورسله فيحبوه ويؤمنوا به إلهاً واحداً قاهراً حكيماً مالكاً عادلاً أهل للشكر بالعبادة والطاعة له وحده.
ثم انتقل يوسف بالحكمة فى التدرج فى الالخطاب والارتقاء من دائرة التعريف الربانى إلى دائرة التعريف والتكليف الإلهى (التعريف بدين الله) فقال (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ).
وهكذا فقد قدم يوسف بمقدمة جمع فيها ولخص أساسى الدين والعقيدة:
• إيمان بالله أولاً.
• إيمان بالآخرة آخراً وتبعاً لازماً مرتبطاً بالأول لا ينفك عنه ولا ينفصل.
وبذلك أرسى يوسف القاعدتين الرئيسيتين لجميع أشكال وألوان الكفر إما بهما جميعاً أو بواحدة منهما:
• فإنكارالآخرة والكفر بها يجعل الإيمان بإله معبود واتباع تكاليفه أمراً عبثياً لا معنى ولا دافع له.
• وإنكارالله وعدم الإيمان به يجعل الآخرة وهماً لا حقيقة له فجميع الآلهة المزعومة لا قدرة لها على خلق ذبابة ... فكيف تخلق النشأة الآخرة بميزاتها وجناتها ونيرانها؟
وبعد أن عرف ملة الكفر وأبطلها ... بدأ التعريف بضدها ملة الإيمان وحقها فقال: (وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ).
وذكر يوسف آباءه لا على سبيل الفخر بالأنساب والعصبية ... بل ليقدمهم شواهد تاريخية وأمثلة حية واقعية فهم أعلام النبوة ومنارات القدوة ونجوم الهدى.
¥