قال تعالى: وَلاَ تَكُونُواْ كَ?لَّذِينَ نَسُواْ ?للَّهَ فَأَنسَـ?هُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ ?لْفَـ?سِقُونَ [الحشر:19]. أي أنساه مصالح نفسه وما ينجيها من عذابه، وما يوجب له الحياة الأبدية، وكمال لذتها، وسرورها ونعيمها ..
فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه، والقيام بأمره ..
فترى العاصي مهملاً مصالح نفسه مضيعًا لها، قد أغفل الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فرطًا، قد فرط في سعادته الأبدية وحياته السرمدية، واستبدل بها أدنى ما يكون من لذة ..
أحلام نوم، أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع
فالله سبحانه يعوض من كل شيء سواه، ولا يعوض منه شيء، ويغني عن كل شيء، ولا يغني عنه شيء، ويمنع من كل شيء، ولا يمنع منه شيء، ويجير من كل شيء، ولا يجير منه شيء ..
وكيف يستغني العبد عن طاعة من هذا شأنه طرفة عين، وكيف ينسى ذكره، ويضيع أمره حتى ينسيه نفسه، فيخسرها ويظلمها أعظم ظلم، فما ظلم العبد ربه ولكن ظلم نفسه، وما ظلمه ربه، ولكن هو الذي ظلم نفسه ..
ومنها: أنها تزيل النعم وتحل النقم، قال علي رضي الله عنه: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة).
قال سبحانه: وَمَا أَصَـ?بَكُمْ مّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ [الشورى:30].
وما منع قطر السماء، ولا غابت بركة الأرض إلا لسبب ذنوب العباد، وما حلت الهموم والغموم، والأكدار والأحزان إلا بذنوب العباد، فالذنوب هي أساس البلاء وأصل الوباء.
ومنها: بغض الخلق له وخاصة أهل الصلاح والديانة ..
روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيجبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، قال: ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثم توضع له البغضاء في الأرض)).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (ليحذر امرؤ أن تلعنه قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر، إن العبد يخلو بمعاصي الله فيُلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر).
ومن عقوباتها: أنها تجرئ على العبد ما لم يكن يجترئ عليه من أصناف المخلوقات فتجرئ عليه الشياطين بالأذى والإغواء والوسوسة والتخويف والتغرير حتى تؤزه إلى المعصية أزًّا، وتجرئ عليه شياطين الإنس بما تقدر من الأذى في غيبته وحضوره، وتجرئ عليه أهله وخدمه وأولاده وجيرانه حتى الحيوان البهيم ..
قال بعض السلف: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق امرأتي ودابتي.
الخطبة الثانية
ومن أعظم آثار الذنوب وأضرارها أنها تخون العبد أحوج ما يكون إلى نفسه، فإن العبد العاصي إذا وقع في شدة أو كربة أو بلية خانه قلبه ولسانه وجوارحه عما هو أنفع شيء له ..
فلا ينجذب قلبه للتوكل على الله والإنابة إليه، والتضرع والتذلل والانكسار بين يديه، ولا يطاوعه لسانه لذكره، وإن ذكره بلسانه لم يجمع بين قلبه ولسانه، فإن دعا أو ذكر فبقلب غافل ساهٍ، ولو أراد من جوارحه أن تعينه بطاعة لم تنقد له ولم تطاوعه، كمن له جند تدفع عنه الأعداء، فأهمل جنده وضيعهم وأضعفهم، وقطع أقواتهم، ثم أراد منهم عند هجوم العدو عليه أن يستفرغوا وسعهم في الدفع عنه بغير قوة.
والأعظم من هذا والأنكى، والأمرّ والأدهى، أن يخونه قلبه ولسانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله تبارك وتعالى، فيتلعثم لسانه، ويعجم بيانه عن أن ينطق بكلمة التوحيد وشهادة الحق ..
ولا غرابة في ذلك .. ألم يكن في حال حضور ذهنه قوته، وكمال إدراكه قد أسلم الزمام لشيطانه فاستعمله بما يريد، وقاده إلى حيث شاء، فأنّى للخلاص من سبيل حينئذٍ ..
ومنتهى الحسرة حين يخذل المرء في عرصات القيامة وَمَن يَعْصِ ?للَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَـ?لِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [النساء:14].
قُلْ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [الأنعام:15].
¥