بَيْدَ أني عَدَلْتُ عن تلك الإطالة المَرْجُوَّة؛ لِما رأيتُه في حَشْر تلك النَّماذج في ثَنايا مَقال من إنْقاصٍ لقَدْرِ الفِكْرة المُبْتَغى إيْصالُها، وإجْحافٍ بشَأن القيمة المُتَمَنَّى نَشْرُها، فلا أَقَلَّ من إفْراده بموضوع؛ إجْلاءً لرَفيع مَنْزِلَته، وإظهارًا لغَزير فَوائده، وعسى أن يكون قريبًا بإذن الله تعالى.
فما بالُ أقوام قد أَعْوَزَتْهم هِمَم تلك الأصناف المذكورة جميعًا، فلا بهِمَّة الصِّنْف الأول اقْتَدَوا، ولا بعَزيمة الصِّنْف الثاني أخذوا، ولا بإرادة الصِّنْف الثالث تَشَبَّهوا؟ بل صار غاية ما يَتَمَنَّاه واحدُهم: أن تَهْتَزَّ الشِّباك بارْتِطام المُسْتَديرة الجِلْديَّة، فيَحْسُن حِينئذٍ لجَبْهَته السُّجود، ويَحْلو عندئذٍ ليَدَيْه الرَّفْع بالدُّعاء، ويَطِيب وَقْتَئذٍ للِسانه التَّكْبير.
وكيف لا يفعل وقد حَصَّل مُرادَه الأعظم، ونالَ بُغْيَته الكُبْرى، وأَحْرَز أُمْنِيَّتَه القُصوى؟
وليس أَظْرَف من مُصطلحاتهم التي يستعملون، ولا أَمْلَح من ألفاظهم التي يُطْلِقون، فمُهاجِمٌ يُطْلِق صاروخًا، ومُدافِعٌ يَصُدُّ هُجومًا مُضادًّا، وبَطَلٌ يَقْذِف قُنْبَلة، ومُناوَرَةٌ يَقودُها نَجْمٌ، وقَذيفة يَتَيَقَّظ لها حارِسٌ.
ألقابُ مَمْلَكةٍ في غيرِ مَوْضِعِها كالهِرِّ يَحْكي انْتِفاخًا صَوْلَة الأسدِ [15] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftn15)
فأين البُزْلُ القَناعِيسُ [16] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftn16) إذا ضَلَّت الأَمانِي؟ وما السبيل للأُسْد المَغاوير حين كَلَّت الأيادي وفَتَرَت الهِمَم؟ وأَنَّى لنا بالقَشاعِم [17] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftn17) بعد أن خارَت العَزائِم وضَمُرَت الأحلام؟
قد رَشَّحُوك لأمرٍ لو فَطِنْتَ له فارْبَأ بنفسك أن تَرْعى مع الهَمَل [18] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftn18)
أعلم أن تلك الكلمات قد تَثْقُل على البعض، وتَشْتَدُّ وَطْأَتُها على آخرين، وتُعَدُّ من الغُلُوِّ والإفْراط عند أُناس؛ فالأَكْباد المُقَرَّحَةُ لا تُقْرَض، ودُمُوع العُيون لا تُعار.
لا تَعْذِل المُشْتاق في أَشْواقِه حتى يكون حَشاك في أَحْشائِه [19] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftn19)
اللهم افتح بيننا وبين قومنا بالحق، وأنت خير الفاتحين، اللهم أَزِلِ الغِشاوة عن أَعْيُنِهم، وأَنِرْ بصائرهم، ووفقهم لمعرفة الحق، ومتابعة الدَّاعين له، وجَنِّبْهُم أئمة السُّوء، ووُعَّاظ الضَّلالة، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref1) هو مِعْضَد بن يزيد العِجْلي، من كبار أصحاب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وكان من المُجْتَهِدين العُبَّاد، غزا أذربيجان في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وعليها الأشعث بن قيس، فقُتِل بها شهيدًا رحمه الله تعالى. انظر ترجمته في: طبقات ابن سعد (6/ 160)، وثقات العجلي (2/ 287)، والإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر (6/ 305).
[2] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref2) أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (6/ 160).
[3] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref3) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (4/ 159).
[4] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref4) أخرجه ابن سعد في الموضع السابق من الطبقات الكبرى.
[5] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref5) هو همام بن الحارث، النخعي، الكوفي، الفقيه، العابد، روى عن جماعة من الصحابة، وكان الناس يتعلمون من هديه وسمته، وتوفي زمن الحجاج. انظر: سير أعلام النبلاء (4/ 284)، وتهذيب التهذيب (11/ 59،58).
[6] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref6) أخرجه ابن أبي الدنيا في التهجد وقيام الليل (ص509،256)، وأبو نعيم في الحلية (4/ 178).
[7] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref7) البيت لأبي الطيب لمتنبي.
[8] ( http://www.alukah.net/articles/1/10178.aspx#_ftnref8) البيت من قصيدة لأبي تَمَّام قالها في المعتصم بعد فتح عمورية، ومطلعها:
¥