قد أسدلت رقرقا في ظله نهر .. يجري فرات وحول النهر ريحان
ثم نزهت الطرف في مناظر بديعه من شاطئ باب الوادي الى هضبة بوزريعه فاستعظمت تلك الغابات وما أودع الله فيها من أنواع النبات من الضرو والحلحال والكاليتوس وصابون العرايس والخياطة وعرق السوس والرند والشيح وحب الرشاد15 وغير ذلك مما لا يحصيه عداد مما يطبخ مع الطعام أو هو من عقاقير الأسقام وهنا ذكرت الطبيب الصيدلاني عبد الرزاق بن حمادوش الجزائري16 صاحب كتاب ((الرموز)) والتصانيف الحاوية للكنوز فقد كان في صناعة الطب ومنافع النبات ذا مهارة وعلم جم شهد له بذلك العرب والعجم فهلا اقتدى به من انتسب في هذا الزمن الى صناعة العقاقير وهو في هذا العلم فقير.
ثم انحدرت من القصبة العلياء الى دار خداوج العمياء امرأة اجتمع فيها الدين والمال والحسب والجمال فمن حباه بمثلها الاله
فلا تربت يداه ولا رجلاه ولها قصة يرويها الناس ومرآتها مشهورة عند أهل النحاس ثم تواردت علي الأحوال فأتبعت التجوال حتى وفقت ب ((دار القاضي)) صاحب الحكم الماضي من جرى حكمه على كل انسان على نهج ((ان الله يأمر بالعدل والاحسن)) النحل:90
وقد نقشت الآية في أعلى الدار يقرأها الناس لتأصيل هذا الأساس ولم يكن يقضي من تلك الأحكام الا من أتقن الفقه و ((تحفة الأحكام)) 17
ثم أتبعت المسير في تلك الأمكنة التي هي عندي أزمنة مترددا بين ((دار عزيزة)) 18 و ((الدار الحمراء)) 19 وغيرهما من قصور الأمراء.
فدعني من غرناطة وديارها ... وشنيل فالحسن انتهى في الجزائر
وما تفضل الحمراء بيضاء غادة ... مقرطة بالبدر ذات غدائر20
وانها لغادة ذات جمال الا أنها بدت في أسمال21 فليت أهل العمران الجديد أصحاب الاسمنت والحديد يبنون مثل هذه المباني التي تدل على حسن الذوق الباني الا أني دريت أنه لا ينفع شيئا ليت وكلما وقع بصري بمكان أذكرني بما كان ثم أخذتني المسيرة الى ((باب الجزيرة)) فوقفت عند ((الجامع الكبير)) جامع المرابطين سادة السلاطين بنوه منذ ألف سنة وهو من أياديهم الحسنة التي مازالت ترويها الألسنه الا ما كان من أمر المئذنة فانها من مآثر الزياني صاحب الفخامه وخبر بنائها مرقوم في الرخامه22 وقد آنس وحشته ((الجامع الجديد)) 23 اذ لا طارف بقي ولا تليد وكأنهما يتحادثان بما رماهما به الحدثان بعد العصور الراقيه والعصبة الواقيه فهل ترى لهم من باقية.
ثم جذبتني جواذب الأشواق اذ وقفت في ذلك الرواق ذي الأبواب والأعمدة التي كانت في ((مسجد السيدة)) 24 فنقلني من زمني خاطر ناقل فدخلت مسجد ((باب البواقل)) 25 فاذا أنا في مجلس صاخب السمعة المأثورة والمكانة الرفيعة المشهوره العلامة سعيد قدوره وهو جالس في وقاره وحلمه وقد سالت بين السواري سيول علمه وقد أحاط به الطلاب زمر احاطة الهالة بالقمر يغرفون من بحر علومه ويرقون الى ذرى فهومه رجل أعزه الله وأيده فكان ((الباشا)) يقبل يده حتى اذا فارقني التذكار وانقضى خرجت من المسجد قائلا: ياحسرتا على ما مضى ثم هبت ريح شرقية من الناحية البحريه بذكرى الأساطيل العليه لدولة الجزائر وقد علاها كل ليث زائر26 على حالة لو رآها عمروا ابن كلثوم لاستحى أن يقول:
ملأنا البحر حتى ضاق عنا .. ونحن البحر نملأه سفينا
ثم حضر ذكر الريس الأبي حميدو بن علي27 الذي أعرض عن الخياطه وأقبل على الفرقاطه لعلو نفسه وشدة بأسه فكانت له عل الأعداء الصولة وأعز الله به الدوله وكم كان هنا من ربان سارت بأخباره الركبان.
قال محمد بن علي: قد علمت أن الأسجاع لا تشبع من جاع وأن الكلام لا يبني القلاع وأن الجرح لا يندمل بالدمع المنهمل ولكنه شئ بهأشحذ العزائم وأوقظ النائم وهو قبس من نور لمن يهيم في ليل بهيم فاذا سلك الطريق فواها واها وان تنكب المحجة فآها آها فعسى أن نبعث مجدنا من رمسه وأن نربط يومنا بأمسه ولكل غارس جني غرسه
....... تمت ...
1 - وهو السور الذي كان يحيط بمدينة الجزائر ومازالت فيه بقية متصلة بدار السلطان من الناحية الشرقية في نهاية منحدر السوارج بالباب الجديد وقد انهارت منه بعض الصخور بسبب الامطار والاهمال قبل صدور هذا العدد بأيام فحرك فينا مشاعر الأسف فكانت هذه المقامة.
¥