فهذا عبيد الله بن قيس بن شريح الأموي المشهور بـ (قيس الرُّقِيَّات) ذلك الشاعر الماجن المتغزِّل في الحرائر! كان ممن شارك على نشر تلك القبائح في حق الإمام القس بأشعاره التي طار بها المغرضون كل مطار! على حدٍ قول القائل:
لكل ساقطة في الحي لاقطة ... وكل كاسدة يومًا لها سوقُ! فذكر غير واحد أن قيس الرقيات هذا اجتمع يومًا بـ (سلامة) وأختها (ريَّا) فقال لهما: (إني أريد أن أمدحكما بأبيات وأصدق فيها ولا أكذب! فإن أنتما غَنَّيْتُماني بذلك وإلا هجوتكما ولا أقربكما! فقالتا له: فما قلتَ؟ فقال:
لقد فَتَنَتْ رَيَّا وسَلاَّمةُ القَسّا ... فلم تتركا للقَسِّ عقلاً ولا نَفْسَا!
أُختانِ إحداهما كالشمس طالعةً ... في يوم دَجْنٍ وأُخرى تُشْبِه القَمَرا!
تَكُنَّانِ أبْشاراً رِقاقًا وأوجُهًا ... عِتَاقًا وأطرافًا مُخَضَّبةً مُلْسا!
هكذا لم يكتف بخدش عرض الإمام القس بفتنته بسلامة وحدها! فضمَّ إليها أختها (رَيَّا)! وكانت ريَّا نحو أختها في الشهرة بالأغاني والألحان!
وكأنه كان قد لقيَ بعض الجفاء والصدود من معشوقته (كَثِيَرة الخزرجية)! التي كان يُشَبِّبُ بها في شعره دون حياء! فلم يحتمل مكابدة الشوق في استعمال التغزل حتى جعل يلوك به لسانه في حق الإمام القس مع سلامة وأختها معًا!
كأنه ما كفاه فضيحته نفسه بتشبيبه في ثلاث نسوة كلهن يُسمَّى:بـ (رُقَيَّة) حتى لقَّبوه بـ (الرُّقيَّات) لأجل تغزُّله فيهن! حتى عمد إلى اتهام الأبرياء بدائه نفسه!
وهكذا يفضح الله الوالغين في أعراض الناس دون تَهَيُّبٍ لذلك اليوم الرهيب: يوم يقوم الناس لرب العالمين.
ثم تدور عجلة الأزمان، وتمضي دوائر الأيام، فيظهر طراز آخر من الكَتَبة الذين ضل مسعاهم إلا في الاهتداء إلى ثلْبِ الأطهار والتقوُّل على ألسنتهم من الكذب وكلمات الهيام والغرام ما يقفون لأجله يوم الحساب ترتجف قلوبهم حتى تكاد تطير من هول ما يأخذ الله به الآثمين والكَذَبَة!
ففي ليلة ركَدتْ ريحها، وأرِقَتْ نجومها: تسلَّلتْ خطرات الشيطان إلى آذان الكاتب الكبير (علي أحمد باكثير)! لتُلْقي في مسامعه معالم رواية جديدة من قائمة سلسلة رواياته في (الحب العذري الطاهر)؟!
ولم تتركه تلك الخطرات يتعثر من الحيرة في اختيار أبطال قصته الجديدة! بل جاءتْه بالبطل والبطلة هذه المرة متمثِّلين في (سلامة والقَسِّ)!
فلم يُكَذِّب خطرات الشيطان! ولا استعاذ منه بالرحمن! بل عمد إلى تصديق الوساوس، ونهض إلى تجسيد الهواجس! ووضع روايته الآثمة لأول مرة: (سلامة القس) التي جعل يتزيَّدُ فيها من البهتان على لسان العاشِقَيْن - على عادة كُتَّاب القصة والرواية - ما يعلم هو أنه من هواجس الشيطان وسماديره!
فأساء إلى نفسه قبل يُسيء إلى الإمام عبد الرحمن القَسِّ ومَنْ افترى على شفاههم ما لم يقولوه!
وقد ذكَّرتْنِي مجيء تلك الخطرات والوساوس إلى هذا الكاتب: بمجيء تلك الفتاة الشابة الحسناء إلى الكاتب الكبير (محمد حسين هيكل) الذي كان قد اعتاد أن يقضي إجازة الصيف في أواخر خمسينيات القرن المنصرم في (فندق مينا هاوس) بالقاهرة، ذلك الفندق الذي كان يستمتع من نوافذه بمنظر الهرم والصحراء! ذلك المنظر البديع في كل حين، وهو الروعة والسحر في الليالي القمرية!
قال: (وإنني يومًا لجالس قبل الغروب ... إذ رأيتُ فتاة شابة تُقْبِل عليَّ متأبِّطة حافظ أوراقها، ثم تقف عندي وتُسلِّم عليَّ باسمي! ... رأيتها ما لبثتْ حتى وقفتْ أمامي ... وبعد هُنيهة فَتَحَتْ حافظة أوراقها، وأخرجتْ منها ملفًّا أنيقًا وقالتْ: هذه يا سيدي قصة كتَبَتْها صاحبتُها، ورغبَتْ إليَّ في أنْ أضعها بين يديك، وقد تركتْ لك الحرية المطلقة في شأنها! لك أن تقرأها أو تُهْملها، فإذا تفضَّلتَ وأضعتَ وقتك في قراءتها، فلك أن تُلْقي بها في النار، أو تحتفظ بها بين المهملات من أوراقك! ولك إنْ شئتَ أن تنشرها على الناس، فإذا كان لها من الحظ أنْ راقتْك فنشرتَها، فستكون هي إحدى قارئاتها، ولن تعرف أنت ولن يعرف غيرك عن صاحبتها شيئا! ... هذه يا سيدي رسالتي. وهذه هي القصة في ملفِّها. أدعها بين يديك، وأستأذنك في الانصراف! ... وانفلتتْ في رشاقة، وسرعان ما اخْتَفَتْ عن ناظري .... )!
¥