أين ما كنت تُتحفني به من نوادر الكلمات ومحاسن العبارات؟
أين بحوثُك وتنبيهاتك؟
أين نكتُك ولطائفك؟
أين منقولاتك وتعليقاتك؟
أين تلخيصاتك وملحوظاتك؟
أين مراجعاتك لمحفوظاتك؟
لقد تغيرتَ أنت يا صاحبي فلستَ بصاحب الأمس!
أما أنا فكما أنا، على العهد محافظ، وعلى الجادة مرابط، أنتظر أوبتَك بفارغ الصبر!
إنني أمانة يا أخي، فلا تتعرض منها لما لا تطيق، واعلم أن ما تكتبه اليوم فستسأل عنه غدًا، فلماذا تستعملُني فيما يضرك غدا ولا ينفعك اليوم؟!
أخشى أن أثقل سمعك بأوقار ما أسمع من قصص إخواني الأقلام، فما أظن الحجرَ يحتملُها فضلا عن البشر، ولكن صدق خالق البشر: {فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74].
فهذا قلم ..
.. وقع بيد منافق عليم اللسان، فأصيب هذا القلم بالهزال من كثرة ما سطَّر به صاحبُه من خبيث الأورام!! وأصيب بالجذام من كثرة ما دس به صاحبه السم في العسل!! وأصيب بالخبل من كثرة ما يقول صاحبه ولا يفعل! وصار يردد كل يوم قول حافظ:
كم عالمٍ مدَّ العلومَ حبائلا لتباغض وقطيعةٍ وفراقِ
وأديبِ قوم تستحقُّ يمينُه قطعَ الأنامل أو لظى الإحراقِ
في كفه قلمٌ يمج لعابه سَمًّا وينفثه على الأوراقِ
لو كان ذا خلق لأسعد أهله ببيانه ويراعه السباقِ
وهذا قلم ..
.. وقع بيد جاهلٍ ساقته الأيدي الخفيةُ ليكونَ من علية القوم، فصدروه ولا يستحق التصدير، وكبَّروه ولا يستحق إلا التحقير، فأصاب قلمَه التخمةُ من كثرة ما يكتب من هراء، وامتلأ بالانتفاخات من كثرة ما في كلامه من الهواء، وزاغت عيناه من كثرة ما يسطّره من جهالات.
وهذا قلم ..
.. وقع في يد منتسب إلى طلب العلم، إلا أنه مغرور يظن نفسه أعلمَ العلماء، ويضع نفسه في مرتبة إمامة العصر، فتراه كلما خطر له خاطرٌ جعله أصلا وصنف فيه التصانيف، واحتال على الاحتجاج له بكل ما يمكنه، فلا تدري الأمةُ أمن أعدائها ينبغي التحرز أمن من قلم هذا؟!
وهذا قلم ..
.. سقط لسوء حظه بيد شاعر ماجن، لا يري شيئًا يستحق القولَ إلا القصائد الساقطة والشعر المرذول والكلام الفاحش، حتى تساقط وجهُ هذا القلم مزعةً مزعةً، من شدة الحياء.
وهذا قلم ..
.. اجتمعت له الدنيا بفخامتها، فصار إلى كبير من الكبراء أو عظيم من العظماء، لكنه مع هذا أتعسُ هذه الأقلام وأشقاها؛ إذ لا يكاد يكتب إلا ما هو ظلم لإنسان، أو إسقاط حق لآخر، أو قرار تعذيب لثالث، أو أمر قتل لرابع، أو عقاب ظالم لخامس، أو تزوير في أوراق رسمية، أو توقيع على رشوة، حتى أوشك هذا القلم على الانتحار تجنبًا لما يصيبه من آلام هذه المآسي.
وهذا قلم ..
.. اجتلبه صاحبه للزينة؛ يلمعه كل يوم وينظفه، ثم يضعه في موضعه اللائق على المكتب، وأما الكتابة فلا يسطر به سطرًا، ولا يكتب به كلمة، فهو عن العلوم والآداب بمعزل، فصار حيًّا أشبه بالأموات، وإنما الميت ميت الأحياء.
أسعدني يا صباحي، وشاطرني البكاء على أحوال إخواني الأقلام، والحمد لله أن حالي ليس كحالهم، إلا أن قلبي يتفطر ألَمًا لِما يجري لهم.
فأسأل الله - عز وجل - أن يجعل فيك وفيّ خلفًا من ذلك، فاللهم أجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيرًا منها.