تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

لماذا كُنَّا ضعفاء وعندنا جيش يشهد له الأعداء بأنه في مقدمة جيوش الأمم الحربية بسالة وشجاعة وتدريبًا؟ يقول قومٌ: إن ضَعفنا محصور في قلة المال، ونقول: إن عند الدولة من الذخائر ما يساعد على كلِّ عملٍ تريده، وعندها من موارد الثروة ما إن أحسنت استغلاله واستعماله، كانت من أغنى الدول، ويقول آخرون: إن ضَعفنا محصور في الجهل دون سواه، ونقول: إن الأمة جاهلة ولكن عند الدولة من الرجال من لا ينقصهم شيء من علوم الإدارة والسياسة، والصواب أن ضَعفنا كله معلول لعلة واحدة: وهي السلطة المطلقة.

صاحب السلطة المطلقة أقدر على الإصلاح؛ إذا هو عَلِم وأراد، ولكنه قلَّما يريد، ولم نرَ أمةً من الأمم صلح حالها وارتفع شأنها بسرعة كالأمة اليابانية التي نهضت بِهِمَّة عاهلها (الميكادو)، على أنها هي الأمة الوحيدة التي ارتقت بملكها، وسائر الأمم المرتقية إنما نهضت بأنفسها، وأصلحت حال حُكَّامها وأوقفتهم عند حدودهم.

قد بيَّنَّا في السنة الأولى أركان الإصلاح التي يجب على الدولة العلية إقامتها، بعد بيان أسباب الضَّعف ومناشئ الخَلل من تاريخ الدولة الرَّسمي: "تاريخ جودت باشا"، ويعتذر بعض الناس عن السلطان بأن مداراة دول أوروبا في الخارج ومناهضة حزب الترك الأحرار في الداخل لم يدعا له وقتًا يصرفه في إصلاح المملكة، ونقول في الجواب: أما حزب الأحرار فالصادقون من أهله تؤْمَن غائلتهم بمجرد الشروع في الإصلاح، والمحتالون على المناصب والرواتب علاجهم الإعراض عنهم وعدم المبالاة بهم مهما قالوا وفعلوا.

وأما دول أوروبا فلا مفرَّ من عدوانها وافتئاتها على الدولة، وعبثها باستقلالها في بلادها إلا بالقوة، فأول عمل يجب على السلطان وجوبًا فوريًّا هو الإسراع بإصلاح القوة البحرية وزيادة القوة البرية؛ حتى تكون القوتان في المكانة الأولى، ولا أستحيي أن أقول: إنه يجب أن يكون قصده في عمله هذا إلى جعل قوة الدولة في البر والبحر كقوة دولة فرنسا سواء، ولا يمكن القصد إلى هذا العمل العظيم إلا بعد السماح ببيع تلك الكنوز من ذخائر الملوك الذهبية والجوهرية، إلا ما كان أثرًا تاريخيًّا يفيد بقاؤه العلم، فإذا أَنفَ السلطان من بيع تلك القناطير المقنطرة من أواني الذهب والفضة ومن الجواهر التي لا صناعة فيها يضن بها التاريخ، وكان لا يجد المال لهذا الإصلاح إلا ببيعها، فإن دولته ستفقدها في يوم من الأيام، ويكون قد أبى بيعها بعزِّ الدولة لبيعها بذُلِّها وهوانها - لا قدر الله تعالى!

ومن الناس من يزعم أن دول أوروبا لا تمكِّن السلطان والدولة من زيادة القوة وإبلاغها درجة الكمال، فإذا هي شعرت بأنه يقوي البحرية ويعمِّم التعليم العسكري في الولايات، فإنها لا تمهله أن تقتسم بلاده وتعجله بحلِّ عقدة المسألة الشرقية.

ونحن نقول: إذا كان من الثابت عند السلطان أن أوروبا لا تمكنه من الإصلاح؛ لأنها تريد أن تحتج بالخَلل على تمزيق الدولة وتقطيعها قطعًا يسهل عليها ابتلاعها، وأنه إذا حاول تقوية دولته لتتمكن من الاستقلال ظاهرًا وباطنًا، فإن دُوَلها تتفق حينئذ على الإيقاع بها مرة واحدة، فأيُّ مرجح للرضا بالتقطيع إربًا إربًا على الاستبسال والتعرُّض لإحدى الحُسنيين: حفظ الاستقلال أو موتة الأبطال؟ " [1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftn1).

إن في الكلام عِبَرًا كثيرةً أخرى، والمهموم بالإصلاح أولى بالوقوف عندها وتأملها، واستخراج ما تسمح به عبقريته وتجربته، وهو - لا شك - أكثر مما سمحت به المساحة المرصودة للكتابة.

ـــــــــــ

[1] ( http://www.ahlalhdeeth.com/vb/#_ftnref1) مجلة المنار، (6/ 428)، وما بعدها.

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير