قابلت في اليوم الثالث من زياتي وهو يوم الثلاثاء الشيخ الكبير سناً ومنزلة ومكانة , زهير الشاويش , زرته في حي الحازمية , أرقى أحياء بيروت وأنزهها , وهو حي يغلب على سكانه الثراء , يسكن أغلب هذا الحي نصارى موارنة , زرته في قصره الفخم البديع , منزل تحف به الحدائق , يطل على الشارع العام الرئيسي , والشارع الفرعي الآخر , اصطحبت معي أحد أبناء شيوخ السلفيين في بيروت , وذهبنا لزيارته , كان منزله بديعاً لكنه هو الزينة والفخر , فهو بشوش كما عرفته عندما زاني في منزلي بمدينة جدة , عرفني وأكرمني , زرت المكتب الإسلامي , ذلك المكتب الذي ساهم في نشر عددٍ من أهم الكتب في فترة الأربعين سنة الماضية , قابلت الموظفين , رأيت المكاتب والمستودع , تخيلت المكتب الإسلامي وهو في دمشق , يوم أن كان الألباني رحمه الله ومعه شعيب وعبد القادر الأرناءوط يمطرون العالم الإسلامي بالكتب العلمية النافعة , يوم كانت سمائنا تمطر من المكتب الإسلامي وامثاله كتب الحديث والعلم النافع , يوم كنا نصحوا على جامع الأصول , ونقرأ في رياض الصالحين , ونطالع الكتب الفكرية الجميلة , وبكيت على حاضرنا في زمن الضياع والفوضى الفكرية.
أهم شيء في الزيارة للأستاذ الكبير زهير الشاويش أمران , أولهما: تجديد العهد به ورؤية الصالحين في بلدان الله البعيدة , وثانيهما: أنني زرت جزء من مكتبته المليئة بالمخطوطات , حيث شاهدت عنده مالم أشاهده في المكتبات الرسمية في السعودية.
قسم المخطوطات به ألوف وألوف من الكتب , زرت قسماً به ستين بالمئة فقط , وإذا هو يربوا عن خمسئة ألاف من الكتب المخطوطة الأصلية (لا يوجد عنده هناك مصورات) , تلك الكتب العتيقة قد غلفت بأغلفة قديمة عجيبة , يبدوا لك عبق التاريخ , وتعيش جزءً من الحضارة البائدة التي ملكنا فيها العالم , تشاهد بينها الكتب التي كان الزركلي في كتابه الأعلام يصور من مخطوطات (زهير) خطوط العلماء ويطرز بها كتابه الموسوعي الضخم.
قلت لرفيقي عبد الرحمن وهبي: كيف يعيش هذا في بيروت , أليست مدينة الملاهي والعبث , كيف عاش بقلبه وروحه , إنه يسكن بين النصارى , ويتقلب في بيروت , وقد وضع لوحة جميلة كبيرة في صدر مجلسه مكتوب عليها بخط جميل وكبير جداً: (لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله).
إنه أشبه براهب في دير , , فالراهب منكفئ في صومعته يتعبد , ولكن الشاويش لم ينكفئ عن الناس , لقد رأيت النصارى يحبونه ويألفونه ويفتخرون بمقامه بينهم , فهو أب رحيم وحنون للسكان في الحي الذي يقطنه , وهو كريم مضياف للجميع , وهو مدافع عن حقوق الشعوب لتعيش بكرامة وحرية , وهو سلفي اثري عاشق للحديث النبوي وأهله بدرجة مذهلة وعجيبة.
يشرح لك زهير الشاويش عن كل كتاب مخطوط , يحدثك بالتاريخ القريب والبعيد , يفتح قلبه وبيته ومكتبته للناس , يعلمك التواضع , فهو رأس في بلده وقومه و وهو من كبار السياسيين في وقته وشبابه , تشعر وأنت معه بالتقزم والتصاغر , فنحن لا نملك وجاهة اجتماعية عالية مثله , ولسنا من أقرانه فبيننا وبينه عشرات السنين , ولا نملك مكتباً للنشر دخلت مطبوعاته كل مكتبة عامة تقريباً , ومع هذا يقاد بالعربية المتحركة , ويصعب عليه المشي والتنقل إلا بمساعدين قويين , تراه يأتي ليحدثك ويلاطفك , ويتسلل كلامه لقلبك وعقلك , وتجده يصغي إليك ويستمع منك ويرد عليك بلهجته الدمشقية وليس بلهجة أهل بيروت.
في بيروت زرت بعضاً من المراكز السلفية , إنهم طراز عجيب في العودة للماضي مع مواكبة الحاضر , كتب التخريج والحديث والسنة , اللحى الطويلة , الثياب القصيرة , الفصول الدراسية الراقية , والسيارات الجميلة , الحاسبات الآلية المتطورة , ربما توافقهم في بعض الأفكار وربما تخالفهم أنت , لكنك تعجب من السباحة عكس التيار , والثبات على المبدأ , في بلد يدعوك لمسايرة الغرب بأفكاره ولباسه وتعليمه , وتجد من يدعوك للماضي مع متطلبات الحاضر , تجد شاباً وسيماً جداً بلحية بنية جذابة وقد لبس جلابية بيضاء , ستراه يجلس يقرا ويعلم الناس القرآن فتظنه أحد الفقراء , لتفاجأ بأنه يحمل شهادة الماجستير في الهندسة المدنية من بيروت , وتجده يتحدث بالإنجليزية والفرنسية كما يتحدث بالعربية , وستجد المتخصص في أدارة الأعمال يأتي بسيارته المرسيدس الفاخرة وهو يدير عجلة الدعوة إلى الله كما يتحكم في مقود سيارته , ويحدثك عن الجهود المبذولة , صحيح أنها ضعيفة أمام التيار العام لكنها مشجعة وجميلة جداً.
بصراحة تجد هنا التناقضات الصارخة , فتختلف القاهرة (حرسها الله) عن بيروت , ففي القاهرة يغلب على الشعب التدين السني , ولكن في بيروت الحابل مختلط بالنابل , ولا تدري من يسلم عليك هل هو سني أو درزي أو شيعي أو نصراني أو ملحد.
في بيروت ستجد عذوبة في الكلام لا يتخلف عنها أحد , فالكلام ليس فيه جفاء الصحراء , بل ولا حديث السوريين القريبين منهم , ففيه رقة وعذوبة , حتى أنك تستمع للشيخ الجليل فتظن أنه شاب مراهق يتانق ويتودد في عبارات المودة واللطف حتى تذوب أنت من الخجل.
من ذهب مثلي (لليمن) المسمى باليمن السعيد!! , أو ذهب للرياض والقصيم , سيعرف الفرق بين طريقة الكلام , ليس في مخارج الحروف فقط , بل في الألفاظ التي تدل على الإحترام والتبجيل والإحترام!!.
حسناً لكن أكمل عن بيروت , لأنني عزمت على زيارة أخرى بإذن الله , ربما تكون أكثر عمقاً , وأكثر بحثاً ...
خضر بن صالح بن سند
جدة: (11/ 7/1431)
ملاحظة صور زهير الشاويش وصور مكتبته ومخطوطاته , وصور بيروت وغيرها توجد في صفحتي في الفيس بوك .... (خضر بن سند)
¥