والمقام في خطبة الجمعة مقام له خصوصيات متعددة يخالف غيره من المقامات في الدروس والمحاضرات والوعظ والتذكير، وهو مقام عظيم؛ لتبليغ هذا الدين صافيًا يجهر فيها الخطيب بنصوص الوحيين الشريفين وتعظيمهما في القلوب والبيان عنهما بما يليق بمكانتهما ومكانة فرائض الإسلام فلا أرى لك أيها الخطيب للجمعة إلا اجتناب الإنشاد في خطبة الجمعة تأسيًا بالنبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو بك أجمل وبمقامك أكمل. -والله المستعان-" اهـ من تصحيح الدعاء ص99.
الشعر والغناء
قال ابن حجر -رحمه الله-: "واستدل بجواز الحداء على جواز غناء الركبان المسمى بالنصب، وهو ضرب من النشيد بصوت فيه تمطيط، وأفرط قوم فاستدلوا به على جواز الغناء مطلقًا بالألحان التي تشتمل عليها الموسيقى، وفيه نظر" اهـ الفتح ملخصًا ج10/ 668.
قال ابن القيم -رحمه الله-: "لا اختلاف بين علماء الكوفة في تحريم الغناء، وكذلك لا اختلاف بين أهل البصرة.
ومذهب أبي حنيفة في ذلك من أشد المذاهب في ذلك ... وصرح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدف حتى الضرب بالقضيب، وصرحوا بأنه معصية يوجب الفسق وترد به الشهادة، وأبلغ من ذلك أنهم قالوا: إن السماع فسق والتلذذ به كفر ... وقالوا: ويجب عليه أن يجتهد في أن لا يسمعه إذا مر به أو كان في جواره ...
وقال الشافعي: إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل والمحال، ومن استكثر منه فهو سفيه ترد شهادته. وصرح أصحابه العارفون بمذهبه بتحريمه.
وقال الإمام أحمد: الغناء ينبت النفاق في القلب لا يعجبني، وقال: سمعت يحيى القطان يقول: لو أن رجلاً عمل بكل رخصة بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة؛ لكان فاسقًا.
وقال سليمان التيمي: لو أخذت برخصة كل عالم أو زلة كل عالم اجتمع فيك الشر كله.
ونص على كسر الآت اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة وأمكنه كسرها" اهـ ملخصًا من إغاثة اللفهان 1/ 196 وما بعدها.
وليعلم العبد المؤمن أن الدنيا دار ابتلاء، وأنه مسجون فيها عن الشهوات المحرمة، ومنها: التلذذ بالغناء المحرم، حتى إذا خرج من نصب الدنيا إلى رحمة الله -تعالى- متَّعه الله -عز وجل- بسماع أصوات الحور العين في الجنة، وأيضًا جعل الله -تعالى- للمؤمن في الدنيا عوضًا عن هذه اللذة المحرمة بلذة أخرى مباحة؛ وهي لذة الاستماع إلى القرآن الكريم من ذي صوت حسن ماهر بالقرآن من عباد الله المؤمنين كما كان عمر -رضي الله عنه- يقول لأبي موسى: ذكرنا ربنا، فيتلو من كتاب الله -تعالى-.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فهذا كان استماعهم، وفي مثل هذا السماع كانوا يستعملون الصوت الحسن، ويجعلون التذاذهم بالصوت الحسن عونًا لهم على طاعة الله وعبادته باستماع كتابه، فيثابون على هذا الالتذاذ، إذ اللذة المأمور بها المسلم يثاب عليها كما يثاب على أكله وشربه ونكاحه، وكما يثاب على لذات قلبه بالعلم والإيمان؛ فإنها أعظم اللذات وحلاوة ذلك أعظم الحلاوات" اهـ من الاستقامة 1/ 192.
تلاوة القرآن بطريقة الإنشاد والألحان
قال ابن القيم -رحمه الله-: "كان له -صلى الله عليه وسلم- حزب يقرؤه ولا يخل به، وكانت قراءته ترتيلاً لا هذَّا ولا عجلة، بل قراءة مفسرة حرفًا حرفًا. وكان يقطع قراءته آية آية، وكان يمد عند حروف المد؛ فيمد الرحمن، ويمد الرحيم ... وكان يحب أن يسمع القرآن من غيره، وأمر عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- فقرأ عليه وهو يسمع.
وخشع -صلى الله عليه وسلم- لسماع القرآن منه حتى ذرفت عيناه. وكان يقرأ القرآن قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا ومتوضئًا ومحدثًا ... "، إلى أن قال: "وكل من له علم بأحوال السلف يعلم قطعًا أنهم برآء من القراءة بألحان الموسيقى المتكلفة التي هي إيقاعات وحركات موزونة معدودة محدودة، وأنهم أتقى لله من أن يقرءوا بها ويسوغوها، ويُعلم -قطعًا- أنهم كانوا يقرءون بالتحزين والتطريب، ويحسنون أصواتهم بالقرآن، ويقرءونه بشجن تارة، وبطرب تارة، وبشوق تارة، وهذا أمر مركوز في الطباع تقاضيه ولم ينه عنه الشارع مع شدة تقاضي الطباع له، بل أرشد إليه وندب إليه، وأخبر عن استماع الله لمن قرأ به، وقال: (لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ)، وفيه وجهان أحدهما: أنه إخبار بالواقع الذي كلنا نفعله، والثاني: أنه نفي لهدي من لم يفعله عن هديه
¥