[خواطر من الحرمين]
ـ[عصام البشير]ــــــــ[08 - 08 - 10, 11:31 م]ـ
[خواطر من الحرمين]
(1)
لو كانت الألفاظ قادرة على وصف المعاني كلها وصفا دقيقا، كما تتمثل في الأذهان، وكما تلوح في الخواطر، لما كان لأرباب الأدب، وأساطين البلاغة، فضل على غيرهم من عامة الناس. فما تميز هؤلاء، ولا تفردوا، إلا لأن اختيار الألفاظ والتراكيب التي تقرب المعاني المختلجة في الصدور، صنعةٌ تحتاج إلى ذهن شديد الصفاء، وبراعة محكمة، وجهد مكرث. فهي لذلك صنعة لا يتقنها إلا الأفذاذ من الناس.
ثم إن قصارى جهد هؤلاء الأفذاذ أن يقربوا المعنى إلى ذهن القارئ تقريبا. أما أن يأتوا به على وجهه كما تصوره صاحبه، فذلك ما لا سبيل إليه بحال.
وأما من دونهم من الذين يتكلفون الكتابة وليسوا من أهلها، فالأمر أعسر، والخطب أعظم.
وما علمت أن ألفاظي تخذلني في شيء المعاني، كما تخذلني إن أردت التعبير عما يدور بخلدي، وما يعتمل بمهجتي من المشاعر، حين تضمني رحاب الحرمين ..
ولقد احتبست ألفاظي بعد مخاض طويل، حين أردت أن أصف شعوري خلال حجتي التي كانت منذ نحو تسع سنوات، فما سطرت سوداء على بيضاء.
وها أنا اليوم، أتجشم مثل الذي تجشمت من قبل .. وأمامي شاشة الحاسوب المضيئة، يغريني فراغها بالكتابة. فما أدري: هل يأتي المخاض بولادة مباركة، أم يتعسر الحال كما تعسر من قبل؟
(2)
كانت الساعة تقترب من الثالثة والنصف صباحا، حين انبعثت بنا سيارة الأجرة من مطار المدينة النبوية، تنتهب الأرض انتهابا، لا يحول بينها وبين الانطلاق – في هذا الوقت من السحر - شيء من زحام الطرقات.
وما لبثت أن بلغت إلى مشارف المسجد النبوي .. وإذا بالمصلين يتحركون أرسالا ليجيبوا داعي (حي على الفلاح)، وعلى سمتهم مسحة من الوقار، وفي همساتهم عبق من طهر الإيمان، وخطاهم الحثيثة تنساب نحو المسجد النبوي المتلألئ بأضواء الجمال والجلال، كما تنساب مياه الغدران نحو غاياتها التي كتبت لها.
وتلتفت يمينا وشمالا، فلا ترى إلا مقبلا على خير ..
وتصيخ بأذنيك، فلا تسمع فجورا ولا لغوا ..
وتستنشق الهواء بأقصى ما تحمله رئتاك، كأنك تحمل من هذا الهواء الطاهر، زادا تجلبه معك إذا رجعت إلى بلدك.
وتمشي حيث يمشي الناس .. وأبواب المسجد تفتح ذراعيها، لتحتضنك في عناق دافئ، ينسيك ما سلف من أيام الغفلة .. ولا تملك في هذا الحضن الرفيق، إلا أن تستسلم لنداء القلب المشحون، فترسل العنان لدموع تثج من مكامنها ..
(3)
لأي شيء تنهل دموعك يا صاحبي؟
ألأنك ذكرت ساعات الغفلة، التي أفنيت فيها زهرة شبابك، حتى مضت بك رواحل الأيام، تخب بك في فيفاء الحياة، إلى حيث لا رجوع؟
ألأنك تأملت حالك مع الدنيا المُطغية، فإذا بك تتحسر على ما التهمته من فلذات قلبك، وما سودته من صفحات مهجتك؟
ألأنك ذكرت الذنوب التي تناسلت في أركان بدنك وروحك، كما تتناسل الجراثيم المدمرة، حين يتاح لها شيء من العفن تقتات منه؟
ألأن فؤادك المكلوم ذاق حلاوة الطهر في تلك البقاع المنيفة، وتذكر مرارة الغفلة في الربوع التي تركها وراءه، فكرِه أن يُسْلمه ما يستقبل من أيامه إلى تلك الغفلة الخانقة .. وزاد من ألمه الممض أنه يعلم أن الرجوع حتم عليه، لا سبيل له إلى تنكبه .. فجزع لهذا الخاطر، كما يجزع المحكوم عليه بالقتل صبرا حين يقدم إلى جلاده .. ؟
لم تبكي يا صاحبي؟
ألمنظر هذه الجموع المشتاقة إلى الطاعة، المنتظمة في سلك التقرب إلى الله؟
ألصوت هذا النداء الرباني الذي يرتفع عاليا، يشق أديم السماء، فترتفع معه القلوب، مشتاقة إلى رضوان بارئها، متخلصة من قيود التراب؟
ألذكرى الصالحين الذين مروا من هذا المكان، الذي تطأ أرضه، وتستنشق أريجه؟
يا لها من ذكرى تتقطع من ملامستها نياط القلوب!
من هذا المكان، انبجست ينابيع الإيمان والحكمة، فطمت أرجاء المعمورة ..
في هذا المكان، قامت دولة الإسلام الوليدة، بين خلق من الأعداء يتربصون بها الدوائر، كما يتربص أحفادهم بالمسلمين اليوم .. فما زالت تلك الدولة تنمو على عين ربها، حتى تفيأ الكونُ ظلالها الوارفة ..
في هذا المكان، أنزلت آيات القرآن غضة طرية، ثم طبقت في المجتمع الوليد، على أبهى ما يكون من الصور، وأجمل ما يكون من الأحوال ..
من هذا المكان مر الخلفاء الراشدون، تحيط بهم هالة العدل، وتكتنفهم نسائم التقوى ..
¥