تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

من هنا مر الصحابة الأكرمون، والتابعون المبجلون، والأئمة المجتهدون ..

في هذا المكان كان الذي يتلقى الوحي من السماء .. بأبي هو وأمي .. سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم ..

حق لك يا صاحبي أن تذرف دموعك هنا .. فالمحروم من يبست عيناه في مثل هذا المقام:

حُرِم الذي لم يسكب العبرات = في مسجد المبعوث بالرحماتِ

(4)

وعلى ذكر الحرمان والمحرومين، فقد جرى لي كلام مع بعض أهل البلاد، فعلمت أن منهم من يزور المدينة – على ساكنها أفضل الصلاة والسلام - والمسجدَ النبوي، لأول مرة في حياته! ثم علمتُ من أناس آخرين – والعهدة عليهم فيما يزعمون – أن هذا ليس نادرا عند أهل بعض المناطق.

سبحان الله!

أليس المسجد النبوي من المساجد الثلاثة التي تشد الرحال إليها؟

أليس الصلاة فيه بألف صلاة فيما سواه – غير المسجد الحرام؟

وقد قست هذا إلى حال بعض الناس عندنا، ممن يحنون إلى زيارة الحرمين، فهم يصبحون على شوق، ويمسون على شوق. وتمتد أمامهم جبال من العراقيل، فإذا هم يعالجونها بما يضاهيها من الصبر، فلا يزالون في مغالبة ومدافعة، حتى يمن الله تعالى بالفرج، فلا تسل عن فرحهم يوم ينزلون من الطائرة، وتطأ أقدامهم أرض الجزيرة لأول مرة ..

قست حال هؤلاء إلى حال أولئك، فتعجبت من تباين الأحوال، بين من يُبذل له الشيء المرغوب سهلا ميسرا، فيعرض عنه؛ ومن يسعى إلى ذلك الشيء، ويكد في سعيه، حتى يكاد كيانه ينهد من شدة ما يلقى من الجهد.

ولكن ليس كل الناس يحسن تقدير ما يرفل فيه من النعم. وما ألذ التوفيق إلى شكر النعمة!

والحق أن الحرمان ألوان ..

فمن المحرومين أقوام رأيتهم في المسجد الحرام، في وقت السحر، يخوضون في قيل وقال، وأحاديث الدنيا، وما لا نفع يرجى منه غير تزجية الأوقات، حتى رأيت بعض من بجانبهم، يهجر جوارهم متأففا!

ومنهم نساء وفتيات في المسجد الحرام، يلبسن من الأثواب ما لا يشك أنه من الزينة المتعين سترها، وإن كانت تظنه حجابا أو كالحجاب. وما فائدة الحجاب إن كان فتنة؟ ثم لا تسلْ عن التغنج في الكلام، والتصنع في الحركات! ولعل جلوس أمثالهن في بيوتهن أن يكون أولى بهن، وأسلم لهن في دينهن، من السعي إلى تلك البقعة الطاهرة على هذه الحال.

ومنهم رجل رأيته، فأنكرت منظره، وطال تعجبي من حاله: على بدنه إزار الإحرام ورداؤه، وفي كفه سيجارة ينفث من دخانها، بين خطوة وأخرى، وهو في طريقه إلى المسجد الحرام!

ومنهم أقوام من الموسرين عندنا، فتح الله لهم أبواب الرزق، وألبسهم من سرابيل العافية، ثم لا تجد الواحد منهم يخطر بباله حج ولا عمرة! وقد يتعلل بكثرة الأشغال، لكنه إذا جاء موسم العطلة الصيفية، حزم أمتعته، واصطحب عياله، في رحلة إلى إسبانيا أو فرنسا أو غيرها من بلاد الغرب!

ومنهم أناس تتيسر لهم أبواب الحج والعمرة، في أموالهم وأبدانهم، فيسوفون لغير مسوغ، ويتأخرون لغير مبرر، حتى يأتيهم من العوائق ما يجعلهم يندمون على ما فرطوا، ولات حين مندم! ولقد كنت أنصح بعضهم منذ سنوات بالمبادرة إلى هذا الخير، فيزورّ ويتأخر، حتى جاءنا نظام القرعة في الحج، فلقد رأيته بعدُ متحسرا محزونا.

ومنهم رجل من أهل العلم عندنا – لكنه على بدعة في العقيدة خطيرة – ذُكر لي عنه أنه حكى لبعض تلامذته عن بعض الصعاب التي لاقاها في حجه، ثم ختم حديثه بأن قال: (فلما رجعت إلى بلدي، ودخلت بيتي فرحا مسرورا، شرعتُ أقبّل جدرانه واحدا واحدا .. ). فهل رأيت أعجب من هذا الحرمان؟

(5)

ما الذي يجعل للمسجد الحرام هذه الهيبة في صدور قاصديه؟ وما الذي يجعل للكعبة الشريفة هذا الجلال الذي يسحر ألباب الناظرين إليها، ويأخذ بمجامع قلوبهم؟

أتذكر يا صاحبي حين دلفت إلى داخل المسجد الحرام، تحثّ خطاك لتصل إلى مكان الطواف، والسواري أمامك تحجب عنك منظر الكعبة المنيفة، لكنها تتكشف مع كل خطوة تخطوها عن جزء يسير منها، فكأنها تشفق على قلبك الضعيف أن يفجأه ذلك المنظر المهيب، دون أن يسبق ذلك شيء من التدرج والاستعداد؟ حتى إذا انتهيت إلى محاذاة آخر سارية، وقفت تُفتّح عينيك إلى أقصى ما يطيقه جفناك، وتتأمل أفواج الطائفين حول الكعبة، منيبين مبتهلين، وضجيج أدعيتهم يملأ الأسماع.

ما أجمد العين التي لا تهمي عبراتها في ذلك الموقف! بل ما أقسى القلب الذي لا يتفطر أمام هذا المنظر المتجذر في السمو؟

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير