أتذكر يا صاحبي حين اندفعت إلى الحجر الأسود تشير إليه، وتبدأ طوافك حول الكعبة؟ ألم يخطر ببالك حينئذ عظيم نعمة الله عليك، إذ فتح لك أبواب التقرب إليه، ويسر لك أسباب الرحيل إلى بيته المحرم؟
كم كانت جمةً – يا صاحبي - تلك العراقيل التي انتصبت أمامك لسنوات طوال، فصرفتك عن هذا الخير العميم. فلما صدقت اللجأ إلى مولاك الكريم، انزاحت عنك كلها في طرفة عين كما تنجاب الغيمة، إذا خرقتها أشعة الجوناء.
أتذكر يا صاحبي حين وقفت على الصفا تلهج بالأدعية المأثورة وسط جموع الداعين، وفي ذهنك سؤال يلح عليك، حتى يكاد يصرفك عن كثير من الخشوع: قد خلفت وراءك أقواما لست بأحرص منهم على بلوغ هذا المقام، ولا هم بأقل شوقا منك إلى نيل هذا الفضل الجسيم. فكيف اختارك الكريمُ دونهم، وأسبغ عليك هذه النعمة وأخرهم عنها – ولو إلى حين؟
أما تخشى أن يكون هذا امتحانا، يرى فيه كيف تصنع؛ فتنجح فيه إن أحسنت شكر هذه النعمة، وترسب – والعياذ بالله – إن رجعت إلى بلدك، وليس عليك شيء من آثار الشكر؟
وتنطلق يا صاحبي نحو المروة تسعى، وفي قلبك عزيمة على خوض الامتحان – يسر الله أسباب النجاح ..
(6)
ما أصدق من قال: (رب أخ لك لم تلده أمك).
ذكرت هذا حين التقيت قرب المسجد الحرام الشيخ الكريم عبد الرحمن بن عمر الفقيه الغامدي الأزدي، كان الله له بإحسانه.
وقد كان الشيخ الفقيه في ذهني، لما يقرب من العقد من الزمان، اسما على صفحات ملتقى أهل الحديث، لا صورة ترافقه. لكنني أحببت هذا الاسم، وتعلق قلبي به، كما لو كان الرجل من الخلان الذين أجالسهم كل صباح، وكل مساء.
ولا غرو، فقد عشت مع كلمات الشيخ، وموضوعاته، وردوده، ورسائله. وعايشت مشروعه الجليل: (ملتقى أهل الحديث) منذ أن ولد، إلى أن نما واستوى على سوقه، يعجب طلبة العلم وأهل السنة والجماعة، ويغيظ المبتدعة الأصاغر.
وقد بلغ من تعلقي بالشيخ خلال السنوات الأخيرة أنني كنت في كثير من الأحيان، أضع رأسي في الليل على الوسادة، وأتخيل أنني في مكة، أجالس الشيخ الفقيه، وأجاذبه أطراف الأحاديث.
فلا والله ما كان شخص الرجل بعد اللقاء إلا أعظم وأجل وأكرم، من كل ما كنت أتخيله – وإن كان هو في خيالي من قبل عظيما جليلا كريما.
ثم التقيت بعد الشيخ عبد الرحمن بأخيه الشيخ خالد، فوجدت منه ما وجدت من أخيه: علم وحلم وحكمة وأناة وكرم، وأخلاق هي أخلاق أهل الحديث حقا.
ولقد ذاكرت أحد أحبتي بعد رجوعي إلى المغرب، وكان قد سبقني إلى لقاء الشيخين. فلما أخبرته بما رأيت منهما، قال لي:
-''وهل رأيت أباهما؟ ''
فقلت:
-''لا، ما قدر لي أن أراه''.
فقال:
-''لو رأيته، لعلمت من أين جاءهما ما أعجبك''.
قد كنت أسمع عن جود الرجال فما = أظنه غير أخبار من الكذبِ
حتى رأيت الفتى الأزديَّ يكرمني = فشمت من جوده ضربا من العجب
ويقتفيه أخوه اللوذعيُّ فما = زال الندى من فعال القوم في تعب
(7)
التقيت في المسجد الحرام بين صلاتي المغرب والعشاء ذات يوم، الأخ الكريم عبد الرحمن الجار الله، فكانت جلسة طيبة، تذاكرنا فيها شيئا من الفقه والأصول. ورأيت من أريحية الرجل ما يسُر.
وقد كان من أفضل ما استفدته منه خلال هذا اللقاء: سلام عطر من الأخ الكريم الشيخ عبد الله العتيق، وأخبار طيبة عن الأخ الكريم الشيخ زياد المطيري.
ولقد وددت – والله – لو كانت لي أجنحة توصلني إلى بلاد نجد، بلا تأشيرة ولا جواز، فألتقي بالرجلين الفاضلين، وبغيرهما من أهل الخير في تلك الأصقاع.
(8)
زرت خلال مقامي بمكة – بمبادرة كريمة من الشيخ عبد الرحمن الفقيه - الشيخَ المحدث عبد الوكيل بن عبد الحق الهاشمي. وكانت جلسة طيبة مفيدة، تخللتها بعض الأخبار عن مجالس السماع، ما عقد منها وما هو في طور الإعداد.
وقد تفضل الشيخ الفقيه فاستجاز لي من الشيخ الهاشمي، فأجاب الطلب، وأجازني إجازة عامة بجميع ما يسوغ له التحديث به وروايته، وسلمني الإجازة المكتوبة، وفقه الله تعالى لمرضاته.
ثم وفقني الله تعالى في يوم آخر إلى زيارة الشيخ الفاضل المحقق محمد عزير شمس – حفظه الله تعالى – في رفقة الشيخ عبد الرحمن الفقيه.
¥