ولقد قالوا: إن عمر نهاه عن كثرة التحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك دليل اتهامه، وهذا كلام لا يدلُّ على ما يريدون، إنه لا تلازم بين النهي والشك، وذلك لأن عمر رضي الله عنه كان يدَخر دائمًا أحاديث رسول الله ليؤخذ بها فيما يعرض للناس، ولا تُروى لذاتها، بل تُروَى لأنها علاجٌ لحالِ قائمةٍ ثابتة، فإذا وجدوا علاجها في الكتاب أخذوا به، وإلا التمسوا سنة تعالج الأمر، وأبو هريرة كان يروي الحديث، وكأنه يتعبد بروايته، ولقد قام الدليل على أنه لم يكن متهما عند أمير المؤمنين عمر، بدليل أنه وَلَّاه ولاية المال في بعض النواحي، ولما عزله وحاسبه تبينت نزاهته، فأراد أن يوليه للمرة الثانية فأبى. وقال: إني أخشى الله مقلبَ القلوبِ.
ولقد بيَّن الكتاب الذي تقدمه قبولَ الصحابة لأحاديثه عن رسول الله، ولم يَرد عمر حديثًا له، ولقد سأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أتنكرين مما أقولُ شيئًا، فلم تُنْكِر ما رواه. لكن قالت لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يسرد الحديث سردكم [الكتاب ص 142].
هذا هو الأمر الذي أنكره الإمام عمر رضي الله عنه، وهو سرد الأحاديث سردًا، بأن يجلس وحوله ناس، فيقول: قال الرسول ويتبع ذلك بروايات أحاديث مختلفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد يقولُ عدةَ أحاديث قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في عدة مواضع مختلفة الأزمان، فيقولها هو في وقت واحد، وقد كان يتعبد بذلك، وعمر ما كان يروي الرواية إلا عند الحاجة إليها، وهدفه هو الفتوى والعمل، أما أبو هريرة فهو يريد الرواية لذات الرواية، مجتهدًا في أنه يتلقى الأخلاف عنه أكثر ما يحفظ، وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على نقل مقاله ينقله السامع كما وعى، فرب حامل فقه لا فقه له، ورب حامل فقه إلى أفقه منه، كما روى عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولحرص أبي هريرة على أن ينقل أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأخلاف، أملى حمل ما في وعائه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تلميذه همام بن منبه، فجمع ذلك التلميذ الوفي ما أملاه عليه أستاذه في صحيفة سماها ((الصحيفة الصحيحة)).
ولقد وصلتنا هذه الصحيفة كاملةُ كما رواها ودونها همام عن أبي هريرة رضي الله عنه، فقد عثر على هذه الصحيفة الدكتور المحقق محمد حميد الله في مخطوطتين متماثلتين في دمشق وبرلين، ووجدت لهذه الصحيفة نسخة مخطوطة في دار الكتب المصرية. [الكتاب ص 142]
وقد أخذ الإمام أحمد عددًا كبيرًا من هذه الصحيفة ووضعها في كتابه ((في مسند أبي هريرة)).
-7 -
ولو اتجهنا إلى ما رواه الصحابيُّ الجليل أبو هريرة، ودرسناه دراسة ذاتية لوجدناه صادقًا كل الصدق في نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يدفع كل ريبة يثيرها أعداء الحق والصدق.
وذلك أننا لا نكادُ نجدُ حديثًا يشذُّ عن الحقائقِ الإسلامية، بل هو يؤيدها ويزكيها، وأنَّ أبا هريرة لا ينفردُ برواية حديث ويكون فيه ما يخالفُ القرآن الكريم، وأن الروايات الأخرى عن طريق بعض الصحابة الآخرين كعبد الله بن عمرو بن العاص تتلاقى في الصدق مع رواية أبي هريرة.
وحسبك أن تعلم أنه روى حديثًا أجمع الرواة من الصحابة على صدقه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم ((من كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعدهُ من النار)) حتى لقد قال علماءُ الحديث: ((إن هذا الحديث متواترٌ))، ولكن مَنْ لا دين لهم ولا خُلق يتَّهمون رَاوي هذا الحديث بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان ينوى أن يكذب على الرسول الكريم ما روى هذا الحديث الشريف.
- 8 -
لقد اتهم المفترون أبا هريرة بالجهل، ولو قرءوا ما رواه لرأوا أن ما يدعونه عليه من جهل يأتي على دعواهم بالنقض، أو ينقض اقتراءهم، ويرد عليهم كذبهم، فإن المرويات التي رواها فيها من دقائق الفكر، ما لا يمكن أن يخترعه جاهل، وهي فوق على العالم، إلا أن يُوْحَى إليه. ومن ذلك مثلاً. ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سَبعةٌ يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عدل، وشاب نشأ في عبادة الله ورجل قلبه معلق في المساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال إني أخاف الله، ورجل تصدق
¥