وامرأة مومسة؛ بغيٌّ، زانية غفر لها ذنبها هذا بسبب عمل عملته، فيا ترى ما هو هذا العمل الذي استوجبت به مغفرة الله ورضوانه؟ لقد بيّنه رسولنا صلى الله عليه وسلم، فقال كما في صحيح البخاري، من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غفر لامرأة مومسة؛ مرت بكلبٍ على رأس ركي ـ أي بئر ـ يلهث؛ كاد يقتله العطش، فنزعت خفها، فأوثقته بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك).
سبحان الله، ما أعظم فضل الله؟! وما أوسع رحمته؟!
إن هذه البغي غفر لها؛ لما قام في قلبها من الإخلاص لله، فقد فعلت هذه السقاية، لم يرها أحد، وكم من عمل حقير عظّمته النية!!
فإذا كان الإحسان على الكلاب يغفر به الخطايا، فكيف يصنع الإحسان على من وحّد رب البرايا؟! لا شك أن الرحمة به أحق وأجدر إذا كان خالصاً.
فلا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو في العطف على الحيوان؛ فضلاً عن الإنسان.
لقد قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ). [المجادلة:11].
فأمر ـ سبحانه ـ المؤمنين إذا كانوا في مجلس، واحتاج بعضهم أو بعض القادمين عليهم للتفسح له في المجلس، فإن من الأدب أن يفسحوا له تحصيلاً لهذا المقصود.
فإن من فعل ذلك فإن الله ـ سبحانه ـ يفسحُ له، أي يوسعُ له، ويشمل ذلك توسعة الرزق في الدنيا، وتوسعة المنازل في الجنة.
فإذا كان مجرد الفسح في المكان يوجب هذا الفضل العظيم، وهو لا يضرّ الفاسحَ شيئاً، ولا يكلّفه جهداً، فكيف بمن فرّج عن مسلم كربة، أو دفع عنه مسغبة، أو قضى له حاجة؟!
إذن فلا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن توسع لأخيك في المجلس، فربما رحمك الله بذلك، فكنت من الفائزين.
ألا وإن من الأعمال التي أرشد الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى عدم احتقارها؛ ما جاء في مسند أحمد من حديث أبي جُري الهُجيمي، قال: سألتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم عَنِ المعروف، فقال: (لا تَحقِرنَّ من المعروف شيئاً، ولو أنْ تُعْطيَ صِلةَ الحبلِ، ولو أنْ تُعطي شِسْعَ النَّعلِ، ولو أنْ تُفرِغَ من دلوكَ في إناء المستسقي، ولو أنْ تُنَحِّي الشَّيءَ مِنْ طريق النَّاسِ يؤذيهم، ولو أنْ تلقى أخاكَ ووجهُك إليه منطلق، ولو أنْ تلقى أخاك فتسلِّمَ عليه، ولو أنْ تُؤْنِسَ الوحشان في الأرض). والمقصود بالوحشان الغريب، وإيناسه أن تلقاه بما يؤنسه من القول والفعل الجميل.
وفي رواية لحديث أبي جري الهجيمي عند أحمد، أن أبا جري قال: أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو محتب بشملة له، وقد وقع هدَبها على قدميه، فقلت: أيكم محمد؟ أو رسول الله؟ فأومأ بيده إلى نفسه، فقلت: يا رسول الله؛ إني من أهل البادية، وفيَّ جفاؤهم فأوصني، فقال: (لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط .. ) الحديث.
وفي حديث أبي ذر ـ رضي الله عنه ـ في صحيح مسلم قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلِق».
نعم؛ فمن المعروف المندوب إليه في الشريعة تبسّمك في وجه أخيك، وانبساط وجهك عنده، فهذا مما يجلب الودّ، ويوثق الحبّ.
ومن الحرمان أن تجد بعض الناس لا يلقى أخاه إلاّ بوجه منقبضٍ، وطرف فاتر كأن الأحزان قد حلّت بساحته، وكأنما ينفق هذه الابتسامة من حرّ ماله.
ألا وإن من المعروف الذي يغفل عنه بعض الناس الكلمةَ الطيبة؛ فإن الكلمة الطيبة صدقة؛ فلا يحتقر أحدنا كلمة يبذلها لأخيه؛ تحمل دلالة على خير، أو نهياً عن شر، أو ثناء صادقاً على فِعلة قام بها؛ فربما أن الله أجرى خيراً كثيراً من جرّاء هذه الكلمة.
فلا تعجبوا أيها القرّاء الكرام ـ إذا علمتم ـ أن السبب الشهير لتأليف صحيح البخاري هي كلمة شيخِه إسحاقَ بن راهويه حين قال: (لو أن أحدكم يجمع كتاباً فيما صح من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم) قال البخاري: (فوقع ذلك في نفسي) فألّف كتابه الصحيح الذي هو أصح كتاب على وجه الأرض بعد كتاب الله.
¥