[الشيوخ الشناقطة حفاظ الزمان والعصر ...]
ـ[ابونصرالمازري]ــــــــ[14 - 10 - 10, 05:43 م]ـ
[الشيوخ الشناقطة حفاظ الزمان والعصر ...]
صحبت مرة طالب علم جزائري وحدثني عن علم الشيوخ الشناقطة الموريتانيين وحافظتهم وطريقتهم المميزة في تعليم وتحفيظ صبيانهم، فقد كان له زميل منهم مما أبهرني وكدت أن لاأصدق ما أسامع. حتى لقيت أحداً منهم أكد لي ذلك، بل شاء القدر بمجيء أحد طلاب العلم منهم بعد فترة فروى مما يحفظ وأسند من أحاديث الكتب الستة ما أبهر عقول وأذهان الإخوان
واليوم أحببت أن أنقل لكم مقالاً لواحد مهنم يؤكد ما سمعنا عنهم ويوثق ما شهده منهم.
يقول صاحب المقال محمود بن محمد المختار الشنقيطي:
كثيرون أولئك الذين يَبْتدرونني بهذا السؤال حين يَضُمني وإياهم مجلسٌ، فيدور الحديث حول مسألة الحفظ باعتبارها من أهم قضايا طلب العلم الشرعي، فيسألونني عن أسباب ظاهرة قوة الحفظ عند قومي، ولماذا كانت أهمّ سمةٍ في علماء الشناقطة ـ الذين رحلوا إلى المشرق واتصلوا بالأوساط العلمية ـ القوة الفذة والقدرة الفائقة على استحضار النصوص؟ ويسألونني عن أعجب ما بلغني من أخبار عن نوادر الحفاظ في الشناقطة.
وكنت أجيب بما يناسب مقام كل مجلس ويفيد منه الحاضرون، دون تقص أو تعمد بحثٍ عن الإجابة على هذه القضية، وحين كتب الله لي أول زيارةٍ ـ العام المنصرم ـ لبلاد الآباء والأجداد (شنقيط)، ووقفت على بعض المحاظر الحية القائمة على أطلال ورسوم المحاظر (1) العتيقة، وحظيت بلقاء أجلة فضلاء من علماء الشناقطة (2)، أدركوا أواخر نهضة علمية، كان من أبرز سماتها اعتمادها على حفظ الصدور لما وجد في السطور، وأن العلم هو ما حصل في الصدر ووعته الذاكرة متناً ومعنى، حتى غدا من أمثالهم التي تعبر عن هذا المعنى: (القراية في الرّاسْ ماهُ في فاس ولا مكناس) أي العلم المعتبر هو ما في حفظك، وليس في كثرة الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها. حين كتب الله لي تلك الزيارة كان مما يدور في خلدي الجواب عن السؤال المتقدم من واقع تجربة طلاب العلم في تلك المحاظر، فتجمعت عندي طرق كانت وراء تيسير الله للشناقطة ملكة حفظ نادرة، وطاقة ذهنية عالية جعلتهم يفخرون في ثقة واعتزاز بقدراتهم على استذكار عشرات الكتب، وجعلت العلامة سيدي محمد ابن العلاّمة سيدي عبد الله ابن الحاج إبراهيم العلوي ـ رحمه الله ـ (ت 1250هـ) يقول: (إن علوم المذاهب الأربعة لو رمي بجميع مراجعها في البحر لتمكنت أنا وتلميذي ألْفَغّ الديماني من إعادتها دون زيدٍ أو نقصان، هو يحمل المتن وأنا أمسك الشروح) (3).
وجعلت العلاّمة محمد محمود التّرْكُزي ـ رحمه الله ـ ت عام (1322هـ) يزهو بحافظته متحدياً الأزهريين بأنه أحق بإمامة اللغة والاجتهاد فيها منهم؛ لأنه يحفظ القاموس كحفظه الفاتحة، فاستبعدوا ذلك وعقدوا له مجلساً بالأزهر، فكان كما قال، فأقرّوا له وصاروا يصححون نسخهم من نسخة التركزي ـ رحمه الله ـ المحفوظة في صدره (4).
وقبل أن أتحفك ـ أخي القارئ ـ بشيء من طرقهم وأساليبهم في الحفظ تتضمن الإجابة عن السؤال المتقدم، أتحفك بأخبار القوم ونوادرهم في الحفظ، مما وجدته مسطوراً في كتب التراجم، أو محكياً على ألسنة الرواة، وسيتملكك العجب، وتعتريك الدهشة لسماعه، وتجزم معي بأن ما حباهم الله به من ذاكرة فذة، وقدرة على استحضار النصوص ربما لا توجد إلا في ذاكرة الحاسب الآلي، حتى صارت حكاياتهم في الحفظ غريبة تشبه الأساطير وما يجري مجرى خوارق العادات.
فمن ذلك ما ذُكر في ترجمة العلاّمة عبد الله بن عتيق اليعقوبي ـ رحمه الله ـ، (ت عام 1339هـ)، أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور (5).
وكان الغلام في قبيلة مُدْلِشْ يحفظ (المدوّنة) في فقه الإمام مالك قبل بلوغه، وكانت توجد في قبيلة (جكانت) ثلاثمائة جارية تحفظ الموطأ فضلاً عن غيره من المتون، وفضلاً عن الرجال، ولهذا قيل: العلم جكني (6).
وروي عن الشيخ سيد المختار ابن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ أحمد بن سليمان (ت 1397م) حِفظ كثير من كتب المراجع مثل: فتح الباري، والإتقان للسيوطي، غير المتون والكتب التي تُدرّس في المحظرة (7).
¥