جعلوا الميزان لمعرفة الحقّ كلّ شيء إلاّ الشرع الّذي رضيه لنا ربّنا تبارك وتعالى، وكلّ ذلك بزعم إتباع الشريعة، وإلاّ فمالنا نرى الزائغين عن الحجّة، الزائفين عن المحجّة، الفارقين في وسط اللّجة، يقابلون كلّ نص لم يوافق أهواءهم، ويجدون من خلاله شجا في حلوقهم وقذى في عيونهم، وريبة في قلوبهم، يقابلوه بالتكذيب و الطّعن في الناقل، ومن إستحي منهم قابله بالتحريف والتبديل " بإتباع المتشابه لردّ المحكم، فإن لم يجدوا لفظا متشابها غير المحكم يردونه به، إستخرجوا من المحكم وصفا متشابها وردّوه به، فلهم طريقان في ردّ السنن: أحدهما: ردّها بالمتشابه من القرآن أو من السنن.
الثاني: جعلهم المحكم متشابها ليعطلوا دلالته "
ويأبى الله إلاّ أن يُعلي منار الحقّ، و يظهر أدلته ليهتدي المسترشد، وتقوم الحجّة على المعاند، فيعلي الله بالحق من يشاء، ويضع بردّه وبطره و غمص أهله من يشاء، فلا حجّة لأحد على الكتاب والسنّة.
فلو صدقوا في دعوى محبتهم للشريعة، وحققوا معنى معرفتهم لها، لعلموا أن إنقياد العبد لها أليق من إعتراضه، والوقوف عند الأوامر أجمل بالمحبّ من إعتراضه.
وعجبا بعد ذلك كلّه أن ينال هؤلاء من دعاة السنّة والشريعة، فنصبوا لهم الحبائل وبغوهم الغوائل، ورموهم بالعظائم، وجعلوهم أسوأ حالا من أرباب الجرائم تهمتهم أن إنقادوا لمثل قوله تعالى:" يا أيّها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرّسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله و الرّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا " النساء [59].
أقسام وأنواع المعارضات
تعارض الشريعة بأربع معارضات عموما:
الأولى: تعارض بالمعقول: وهذا للمنحرفين أهل الكبر من المتكلمين الّذين عارضوا نصوص الوحي بمعقولاتهم الفاسدة، وقالوا إذا تعارض العقل والنقل: قدّمنا العقل وعزلنا النقل إمّا عزل تفويض، وإمّا عزل تحريف.
الثاني: تعارض بالرأي: وهذا للمتكبرين من المنتسبين إلى الفقه، قالوا إذا تعارض الرأي والنصوص، قدمنا الرأي على النص.
الثالث: تعارض بالذوق: وهذا للمتكبرين المنحرفين المنتسبين إلى التصوف والزهد، فإذا تعارض عندهم الذوق والأمر، قدّموا الذوق والحال، ولم يعبأوا بالأمر.
الرابع: تعارض بالسياسة: وهذا للمتكبرين المنحرفين من الولاة والأمراء الجائرين، إذا تعارضت عندهم الشريعة والسياسة، قدموا السياسة ولم يلتفوا إلى حكم الشريعة، كحال من ردّ الشريعة من اجل القوانين الوضعية المستوردة من
أهل العقول الضعيفة المنحرفة الّذين لا يدينون بدين الحق، ولا يحرمون ما حرّمه الله ورسوله، المفسدون في الأرض بعد إصلاحها ثمّ ينظرون إلى شريعة الله العليم الخبير نظرة المستهزئ المحتقر.
ألم يعلم هؤلاء أن تنحية شرع الله تعالى، وعدم التحاكم إليه في شؤون الحياة من أخطر وأبرز مظاهر الإنحراف في مجتمعات المسلمين.
بل ألم يعلم هؤلاء أنّ الله تعالى فرض الحكم بشريعته وأوجب ذلك على عباده، بل جعله الغاية من تنزيل الكتاب، قال تعالى:" وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين النّاس فيما إختلفوا فيه " البقرة [213]، وقال تعالى:" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين النّاس بما أراك الله " النساء [105]
(فهذه الطواغيت الأربعة هي التي فعلت بالإسلام ما فعلت وهي التي محت رسومه، وأزالت معالمه، وهدمت قواعده، وأسقطت حرمة النصوص من القلوب ونهجت طريق الطعن فيها كلّ زنديق وملحد، فلا يحتج عليه المحتج بحجّة من الكتاب أو سنة رسوله، إلاّ لجأ إلى طاغوت من هذه الطواغيت، وإعتصم به، وإتخذه جنّة يصد به عن سبيل الله، والله تعالى بحوله وقوته ومنّه وفضله قد كسر هذه الطواغيت طاغوتا طاغوتا على ألسنة خلفاء رسله وورثة أنبيائه، فلم يزل أنصار الله ورسوله يصيحون بأهلها من أقطار الأرض ويرجمونهم بشهب الوحي وأدلّة المعقول).
- ومن أنواع الكبر: ردّ الحقّ الظاهر معالمه لأنّه جاءه من خصيم أو بغيض أو صغير، قال الشافعي رحمه الله تعالى: ما أوردت الحق والحجة على أحد فقبلها منّي إلاّ هبته وإعتقدت مودّته، ولا كابرني على الحقّ أحد ودافع الحجّة إلاّ سقط من عيني. إنتهى
¥