وهذا لا يعني خلو الخطاب السلفي من السياسة، بل الخطاب السلفي يتناول السياسة الشرعية من جهة التأصيل العلمي العقدي الذي يعرف عند السياسيين بالأيدلوجيا، وهي أهم مما سواها من المنظور الشرعي والمنظور السياسي على حد سواء.
فقضية الحاكمية التي تحتل مساحة واضحة ضمن مسائل الاعتقاد السلفية، وقد اعتراها الكثير من الخلل من جراء ممارسات جماعات "الإسلام السياسي" وقبولها بمبادئ الديمقراطية، بل والعلمانية الصريحة أحياناً كما في تركيا، فضلاً عن قبولهم بمبادئ القانون الدولي.
وهذا بالإضافة إلى أن مفهوم الحاكمية قد تحول كنتيجة إلى التركيز على العمل السياسي إلى انتظار الناس إلى أن يطبق الشرع عليهم، والشرع الذي يتشوف الناس إليه هو محاكمة كبار السراق والمرتشين، وأما الشهوات التي يقعوا فيها، وهي ممنوعة شرعاً، فلم يوطنوا أنفسهم على تركها مثل الغناء والموسيقى والتبرج، فضلاً عن التزام الصلاة في وقتها وغيرها، بل أصبح أصحاب الإسلام السياسي يصرحون بأن هذه الأمور لن يزيدوا فيها حال وصولهم إلى الحكم عن الدعوة والترغيب دون الإلزام والعقاب.
وقضية الحاكمية أوسع من هذا بكثير وهي تشمل اعتقاد المسلم بلزوم أن يستمد كل اعتقاداته وتصوراته وعبادته ومعاملاته على مستوى الفرد وعلى مستوى الأمة، كما قال -تعالى-: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65).
والدعوة السلفية في سبيل تقريرها لهذه العقيدة الأساسية يخوضون حرباً فكرية ضروساً مع هؤلاء العلمانيين الذين هم أولى الناس بالدخول في قوله -تعالى-: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة:11)، بينما ترى كثيراً من جماعات الإسلام السياسي أن أي معارض للفساد الواقع هو مصلح، مصلح وإن كان الذي يدعو إليه اشد فساداً وإفساداً.
وكذلك عقيدة الولاء والبراء والتي ترسم السياسة الإسلامية الداخلية والخارجية، والرابطة الجامعة التي يجب أن تنضوي الأمة تحت لواءها.
وبعد العقيدة يأتي دور الفقه في تقرير التفاصيل التشريعية التي ينبغي أن تطبق في باب العبادات والأخلاق وفي باب المعاملات والذي يرسم الخطوط العامة للسياسة الإسلامية الاقتصادية والاجتماعية والجنائية، وكل هذه الأمور مفصلة في كتب الفقه في أبواب البيوع والزواج والجهاد والحدود والجنايات والقضاء وغيرها.
وهذا لا يعني أن الخطاب السياسي السلفي نظري محض، بل كلما وجد في الواقع قضايا تحتاج على تجلية الميزان الشرعي الصحيح لها يكون البيان بفضل الله -تعالى- كما كان في حرب الخليج الأولى والثانية، وكما هو الحال في الموقف من حصار غزة، ومحاولة العلمانيين تقديس الحدود المصطنعة في رابطة الأخوة الإيمانية يكون البيان على قدر الممكن والمستطاع بفضل الله -تعالى-.
ومن هنا فقد جانب الصواب ذلك الشيخ السلفي الذي نقلت عنه جريدة "المصريون" الإلكترونية دون أن تصرح باسمه أنه لما سئل في مجلس خاص عن عدم سبب كلامه عن موضوع غزة، أجاب بأنه لا يتكلم في السياسة؛ لأن هذه المسألة لاسيما مع كثرة الشبهات فيها، لابد وأن تدخل في أولويات الدعوة إلى الله على منهج أهل السنة والجماعة.
وإن كان من عذر الرجل الذي ضنت علينا الجريدة باسمه، هو أنه نسب هنا اختيار شخصي له، ولعله يرى أن غيره قد كفاه وإن بقيت العبارة موهمة.
إلا أن الصواب أكثر مجانبة لمحرر الجريدة الذي سمح لنفسه بأحد خيارين أحلاهم مر: إما أن يكون قد اختلق الخبر، وإما أن يكون قد خان أمانة المجالس الخاصة -والمجالس بالأمانة كما بين رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
والأدهى من ذلك أن ينشر الخبر بصورة توحي أن هذا هو موقف "شيوخ السلفيين"، مما يخالف الحقيقة، ومن هنا يتضح أننا بحاجة أكبر إلى فهم أصول السياسة الشرعية قبل الخوض في أي عمل عام، ولو كان تحرير صفحة مقتطفات الأخبار في جريدة "إلكترونية".
نسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.