أسند ذقنه على يديه وقال: أقف مع نفسي وقفة، وأسأل نفسي: ما الخطأ في طريقة دعوتي؟
هل أستخدم طريقة حسنة في تفهيم أمي أو أختي؟ هل قدمت بين يدي نصيحتي هدية أو ابتسامة؟ هل أجبت عن كل الشبهات التي في قلبهما؟ هل شعرت بالرحمة والرغبة في هدايتهما؟
هل أشعرتهما بالتقدير والاحترام أو بلغهم عني شعور بالكبر والتطاول؟
لاحظ أنت تتحدث عن أمك وأختك التي تحت ولاية أبيك، فإذا وقفت على الخطأ أصلحته واستعنت بالله، وقدمت بين يدي نصيحتي استغفارًا ودعاء، ونظرت في قلبي ونيتي، وإن لم أجد خطأ ظاهرًا، استعنت بالله وتضرعت له بالأسحار؛ كي يهديهم ولا أفتأ أذكرهم ما حييت.
نظرت إليه منبهرًا وقلت: لم يخطر هذا في بالي أبدًا.
ابتسم وقال: ألم تقرأ قول الله - تعالى -: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159]؟
نظرت إليه في دهشة، فكأنما أسمع هذه الآية للمرة الأولى، قلت له: هلاَّ شرحت الآية.
قال: انظر، لقد منَّ الله - تعالى - على النبي - صلى الله عليه وسلم - برحمة في قلبه للأمة، فترى في كثير من الآيات كيف اهتم النبي - صلى الله عليه وسلم - بهداية الخلق، وشق على نفسه ألا يستجيب الناس للحق؛ رحمة لهم، ورغبة منه - صلى الله عليه وسلم - في إنقاذهم من النار، فالذي يمارس الدعوةَ يجب أن يحرص على التماس هذا الشعور من نفسه، قال لي شيخي ذات مرة: لا ينبغي للداعية أن يكون كالجزار، ينتظر وقوع الضحية؛ ليجهز عليها بسكينه، فإن افتقد الداعية هذا الشعورَ، وغلبه الغضبُ، والرغبة في تدمير المدعو وجرحه، فليعلم أن فيه خللاً، وأن دعوته ستأتي بعكس النتائج المرجوة، وسينفض الناس مِن حوله، ومن ثم عدم قبولهم النصح.
انظر كيف يأمر الله - عز وجل - أن يشاور النبيُّ الصحابة، ففيه إشارة خفية للداعية أن يشاور المدعو في أمور لا تمس الشريعة؛ إشعارًا منه بالاحترام، ومنعًا للتطاول، وهذا باب للقلوب لا يعدله شيء، فإن الإنسان إذا شعر أن مَن ينصحه ينتقص عقله، أو جنسه، أو بلده ... إلخ، غضب لنفسه، فقد أخرجته إذًا من حالة قد يقبل فيها الحق، إلى حالة الغضب للنفس، والعصبية الجاهلية.
انظر للنبي لما جاءه الفتى يطلب منه أن يبيح له الزنا، ماذا فعل النبي - صلى الله عليه وسلم؟ شاوره في الأمر، حتى جعل الحق ينطق على لسانه هو.
نظرت له مليًّا وقلت: لكن أحيانًا أشعر أن الشدة تنفع.
ابتسم وقال: أحيانًا نعم، لكن غالبًا تفقد بالشدة ما قد تجلبه باللين.
قلت: بمعنى؟
قال: يعني كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إن الرفق ما دخل في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه)).
فيمكنك أن تجبر ولدك على الصلاة، لكن هل يمكنك أن تجبره على الخشوع فيها؟
قلت: لا.
قال: لكن بالرفق، والتذكرة مرة بعد مرة، والتخويف والترغيب، تصل لمأربك، قال - تعالى -: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132]، فأنت بالصبر والمصابرة تبلغ مرادك، لكننا نقع في العجلة، نريد النتائج حاضرة، ننسى أننا كنا كذلك من قبل: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [النساء: 94]، وننسى أن نحب لإخواننا ما نحب لأنفسنا، ولو أنك إذ وقفتَ أمام مدعوٍّ تذكرتَ أنك تريد نصحه؛ رحمةً به، ورغبة في الأجر ودخوله الجنة، وأنك لو كنت مكانه - عافانا الله - فكيف تحب أن يتحدث إليك الداعي، إذًا لاختلفتْ طرقنا في الدعوة، ولاحظ أنه حتى لو لم تكن الاستجابة لدعوتك تامة، سيظل في قلوب المدعو كلامُك مدويًا، يكفي أنك علَّمته أن هذا هو الحق، في مثل زمننا هذا الذي اختلط فيه الحق بالباطل بدعوة أهل الباطل، فصار كثير من الناس لا يعلمون شيئًا.
كان كلامه يخترق أذني اختراقًا، فينفذ إلى قلبي فيهزه هزًّا، وطريقته في الإلقاء مؤثرة جدًّا؛ عيناه تتفاعل معي، تخترق كياني، أرى فيهما الرحمة والعزة معًا.
قلت: لكن الأنبياء يأتون يوم القيامة ومعهم الرجل والرجلان، وليس هذا عن عيب فيهم؟
ابتسم وقال: لكنك لست موصولاً بالوحي، أنت تخمن أن مَن أمامك متكبر، أو لا يقبل الحق، فدعك ممن أمامك، عليك بنفسك، تعاهَدْها وتحرَّ أن تعمل ما يجب عمله، فإن أيقنت أنك عملت ما ينبغي عمله، ورأيت الشح المتبع، والهوى المؤْثَر، فعليك نفسَك؛ لكن لا تفتأ تُذكِّر بين الفينة والأخرى؛ عسى أن يهدي الله مَن تدعو، وانظر حال نبينا - صلى الله عليه وسلم - كيف كان يدعو إلى الله؟ كيف كان يحرص على هدايتهم؟ حتى المنافقين كان حريصًا على أن يؤمنوا، ولما لم يؤمنوا لم يزل بهم رحيمًا بعد موتهم، ولولا أمر الله له بترك الصلاة عليهم لصلى عليهم - صلى الله عليه وسلم - ما أرحمَه! ما أحلمه!
كنت أستمع له بجسدي كله، أذني وقلبي وعقلي، يا لضيعتي! كم أضعت من العمر هباء!
نهض وأصر على دفع الحساب، لاحظتُ أن الجميع هنا يتعاملون معه بترحاب غير طبيعي، علمت فيما بعد أنه كان سببًا في التزام العاملين، فقط بحسن خلقه، وسخائه، وبسمته، علمت أيضًا أنه لمس غروري وتطاولي على الناس من أول لحظة قابلني فيها، علمت أنه رحمني وأشفق عليَّ، فكانت نيتُه بدعوتي للغداء الدعوةَ إلى الله بالحسنى.
علمت كل هذا بعد جلسة واحدة!!،
أفتسألونني بعد ذلك لماذا أستشيره في كل أموري؟!
¥