تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

فما أجمل هذا النَّصَّ في الوصيَّة بين الزَّوجين! ووجه الكلام للرجُل لأنَّه عماد البيت والقائم عليه، فإن صلح وأصلح انصلح حال البيت، وإن فسد وأفسد فسد البيت، وقسوته ورحمته أبْلغ في التعبير من قسوة المرأة ورحمتها، وتنازُله ولين جانبه تنازُل القويّ القادر المتحكِّم في البيت، أمَّا تنازُل المرأة فهو قد يكونُ أحيانًا تنازُل الضَّعيف الذي لا يملك إلاَّ التَّنازُل [1].

ثمَّ يَضرب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - المثَلَ بالنَّصارى الَّذين كانوا يحرمون الطلاق، فلا يَخطر ببال أحدهِما أنَّه مفارق للآخر، فيصبر كلاهما حتَّى الموت، فالمسلم أوْلى بهذا فعنده من الدَّوافع للحفاظ على بيتِه المسلم ما ليس عند النَّصراني، وعنده من الإيمان في القلْب ما يُعين على مواجهة المصاعب مع الاستعانة بالله، فأحْرى به أن يصبر على زوجتِه، فإنْ كرِهَ منها خلقًا رضِي منها آخر؛ فالطَّلاق بغيضةٌ آثَاره وإن كان في بعْض الأحيان حلاًّ لا بدَّ منْه؛ ولِهذا فمِن رحمة الله أن شرَعَه بشروطِه المعْروفة في كتب الفقه.

ولكن ليس معنى أنَّ الإسلام أباح الطَّلاق أنَّه جعله حلاًّ سريعًا لكلّ المشاكل؛ لأنَّ النُّصوص اجتمعت على الوعيد الشَّديد لمن ضيَّع الرعيَّة، ومنها هذا الحديث في البُخاري: حدَّثَنا أبُو نُعَيْمٍ حدَّثَنا أبو الأشْهَب، عَن الحَسَنِ: أنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ زِيادٍ عادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسارٍ في مَرَضِه الَّذِي ماتَ فِيه، فقالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إنِّي مُحَدِّثُكَ حَديثًا سَمِعْتُه مِن رَسولِ اللَّه - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلَّى اللَّهُ علَيْه وسلَّم - يَقولُ: ((ما مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعاهُ اللَّهُ رَعِيَّةً فلَمْ يَحُطْها بِنَصِيحَةٍ إلاَّ لَمْ يَجِدْ رائِحةَ الجَنَّة))؛ كتاب الأحكام، باب مَن استرعى رعيَّة فلم ينصح.

إنَّ الطَّلاق في هذا الزَّمان بالذَّات ضياع للأسرة، لاسيَّما لو كان هناك أطفال، فاستقرار الأسرة وثباتها يَحتاج لجهد واجتهاد وصبر ومثابرة، حتَّى إذا كان الطَّلاق هو المصْلحة الرَّاجحة بَحثْنا عنْه، أمَّا أن يكون الطَّلاق هو الأقْرب والأسْهل في الحلّ، فهذا خُلُق أناني من أحَد الطَّرفين، وأحيانًا من كليهِما.

فكيف يفكِّر زوجٌ أو تفكِّر زوجة في أوَّل شهر من الزَّواج عند أوَّل بادرة لمشْكِلة في الطَّلاق؟! إنَّ هذا من الحمْق ولا شكَّ؛ لأنَّ المشاكل ستحدُث وتتكرَّر، فحتَّى بين الإخوة من أبناء البيْت الواحد يحدث الشَّحناء والاختلاف، لكن سكّين الأهل - والزَّوجان صارا أسرة واحدة - باردة لا تذبح، والزَّمن يُداوي كثيرًا من الجراح، لكن الحذَر الحذَر ممَّن أصرَّ على سنِّ السكِّين حتَّى صارتْ حادَّة تقطع الرّقاب!

فإن كان الزَّوج والزَّوجة كلاهما كانت تقَع المشاكل بينه وبين إخوانه في بيْت أهله، بل بيْنه وبين أبيه وأمِّه وهو قطعة من جسدهما، فكيْف بِهِما مع رفيق غريب لم يتعارفا ولَم يتآلفَا؟! ولكن جعل الله بيْنهما المودَّة والرَّحمة؛ قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 30]، فإذا التزماها التزمتهما.

فالمودَّة هي الحبّ الَّذي به ينصهر الصّعاب والمشاكل في بوْتقة من الأُلْفة والاحتِمال، والرَّحمة هي الشَّفقة واللّين للآخر.

فما أحسن أن يكون الزَّوج: "إنْ دَخَلَ فَهِدَ، وإنْ خَرَجَ أسِدَ، ولا يَسْأَلُ عَمَّا عَهِد [2]!

وجاء في شرح النووي: "هذا أيضًا مدح بليغ، فقولها: فهِد - بفتْح الفاء وكسر الهاء - تصِفُه إذا دخل البيت بكثْرة النَّوم والغفلة في منزله عن تعهُّد ما ذهب من متاعه وما بقي، وشبَّهته بالفهْد لكثرة نومه، يقال: أنوم من فهد، وهو معنى قولها: (ولا يسأل عمَّا عهِد)؛ أي: لا يسأل عمَّا كان عهده في البيت من ماله ومتاعه، وإذا خرج أسِد - بفتح الهمزة وكسر السين - وهو وصفٌ له بالشَّجاعة، ومعناه: إذا صار بين النَّاس أو خالط الحرْب كان كالأسد". اهـ من شرح النَّووي.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير