تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

[وسواس ...]

ـ[سارة بنت محمد]ــــــــ[14 - 12 - 10, 01:56 م]ـ

وسواس!

رمضان ... في المسجد الذي اعتدتُ الصلاةَ فيه كلَّ ليلة، دخلتُ في أول ليلة، بعدما طال الشَّوق للمسجد، وصوتِ الشَّيخ، وكلِّ شيء، فكلُّ نسمة في هذا الشهر لها ذكرياتٌ وأشواقٌ.

لَفَتَ نَظَرِي مشهدٌ: أختٌ مِن نفس جامِعَتِي، تجلس مُنزَويةً في أحدِ الأركان ساهمةً، على كلِّ خلية منْ خلايا وجهها أَلَمٌ لا يُضاهِيه أَلَمٌ، وحزنٌ عميقٌ، وكانتْ عيناها جافَّة، تَأَمَّلْتُها، إنَّها إحدى الأَخَوات الدَّاعيات في الجامعة، عجبًا!

دائمًا كانتْ مِثالاً للنَّشاطِ والهِمَّة، أُقِيمَتِ الصَّلاة، فاصْطَفَّ الناس، لَفَتَ نَظَري أنَّ الأختَ قامتْ بِتَثَاقُل؛ كأنها مريضة، وَقَفَتْ تُصَلِّي بِجِوَاري، وكان صوتُ الشيخ رائعًا، باكيًا، أثار في جُمُوع المُصَلِّينَ الخشوعَ والعَبَرَات؛ لكنِّي كنتُ مشغولةً بالأُخت التي تُصَلِّي بِجِواري، لم تَبْكِ، فقط شعرتُ بِجَسَدِها ينتفضُ في أَلَمٍ، وبعد الصلاة جَلَسَتْ وقدِ ازدادَ الأَلَمُ في وَجْهِها، وصارَ وَجْهُها شاحبًا، وكانتْ بين كلِّ ركعَتَيْنِ تنكمشُ في جلستها؛ تنظرُ إلى ما حولها كأنها انفصلتْ عنِ العالَم، عدتُ إلى بيتي، وصورتُها لا تُفارِق مُخَيِّلتي، كنتُ أشعرُ بالرَّغبة في التَّعَرُّف عليها، وإزالة أحْزَانِها، عزمتُ على التَّحَدُّث إليها في اليوم التالي، ذهبتُ إليها، وعَرَّفتُها بنفسي، نظَرَتْ إليَّ نظرةً خاوِيةً، وقالتْ: نعم، أسمع عنكِ في الجامعة، وأعرف أنَّكِ مِن أنشط الدُّعاة هناك.

ابْتَسَمْتُ، وقلتُ لها: بل نحن جميعًا نعرف همتكِ في الدَّعوة، أنتِ قدوةٌ صالحة لنا جميعًا.

سَكَتَتْ، وقد عَلاَ وَجْهَها أَلَمٌ أَشَد.

قلتُ لها في قَلَقٍ: أختي، هل هناك شيءٌ يؤلمكِ؟ هل أنتِ مريضة؟

قالتْ: لا.

قلتُ لها: ماذا هناك؟ أنتِ في حالةٍ غير طبيعيَّة.

فسَكَتَتْ.

قلتُ لها: أختي، بالله عليكِ أخبريني، ما بكِ؟ أنا لا أَتَدَخَّل في شؤونكِ؛ لكن لا أستطيعُ أن أراكِ في هذه الحالة، وقد أستطيعُ مساعدتكِ.

نَظَرَتْ لي نظرةً تنمُّ عن صراعٍ.

قلتُ - أسْتَحِثُّها على الحديثِ -: لقد أَقْسَمْتُ عليكِ، يجبُ أن تبرِّي قَسَمي.

نَظَرَتْ لي في حزنٍ، ثم أَطْرَقَتْ، وقالتْ: إنَّه الوَسْواس.

قلتُ لها: أُختي، أفصحي عن مكنونات صدركِ.

نَظَرَتْ لي نظرةً متأملةً، وبَدَأَتْ تحكي: في البداية كنتُ نشيطةً جدًّا في الدَّعْوة، وكنتُ لا أتركُ فرضًا ولا سُنَّةً، كنتُ قويَّةً في أمر الله، بدأ الوسواس:

- إعجاب بالنفس، رياء، كنتُ أجاهدُ نيَّتي، ثمَّ ما أن أبدأ العمل، أجده قويًّا جدًّا لا أستطيعُ مقاومته: ما أفضلكِ، ما أحسنكِ، أنتِ لا تُضَاهين، آه، هذا العمل سيجعلكِ مشهورةً، هذا العمل سيجعل الآخرين مبهورينَ بكِ، ستنالينَ مجدًا وشهرةً، وسيعرف الجميعُ قيمتكِ.

كنتُ أقاومُ، وأقاومُ، وأقاوم، وكلَّما ازْدَادَتِ المُقاوَمة، وكلما زادَ الإحساس وتَعَمَّق، شعرت بالإحباط والهزيمة.

كنتُ أقولُ لِنَفْسِي: لماذا تَقُومينَ بالدَّعْوَةِ؟ إنَّ عملَكِ باطلٌ، هَلاَّ جلستِ في بيتكِ، واعتزلتِ الناسَ، وواظَبْتِ على صلاتكِ وسُننكِ؛ حتى تُصْبِحِي أقوى، فيمكنكِ مُواجهة العالَم؟

ففعلتُ، وتَرَكْتُ الدَّعوة، كنتُ أرى المنكرَ أمامي فلا أنكر؛ لأنني أخشى الرِّياء، وأخشى العُجْب والكِبْر، امْتَنَعْتُ عنِ البُكاء مِن خشيةِ الله؛ لأنَّني أظنُّ أنَّني أُمَثِّل، والآن لا أستطيع أن أدمعَ دمعةً، لا في سِرٍّ ولا عَلَن، أشْعُر أنَّ صلاتي وسُنني غير مقبولةٍ، أقوم للصَّلاة بِتَثَاقُل، فهي غير مقبولة أصلاً، أكْرَهُ نفسي؛ لأنني أشعر أنَّني أفضل منَ الناس، أتمنَّى الموت؛ لِيَنْتهيَ هذا العذاب، وأخْشَاهُ لأنِّي أعرفُ ماذا ينتظرني، لسانِي ثقيل، وقلبي فتر عن ذِكْر الله، والآن قد وَصَلْتُ لمرحلة منَ القُنُوط واليأس، أحسب معها أنني وَلَجْتُ بابًا للكُفر.

ربَّتُّ على كتِفِها، وابتسمتُ، وقلتُ: أختي الحبيبة، هَوِّني على نفسكِ، فالأمرُ يَسيرٌ، وعلاجُه أيسر.

نَظَرَتْ لي، وفي عينيها نظرة تنمُّ عن عدم التَّصديق، وقالت: أنتِ لا تعلمينَ ما يَمُوج في صدري.

قلتُ لها: بل أعلم جيدًا، لستِ وَحدكِ، وكلُّ ما ذكرتِ عندي له حلٌّ، والله المستعان.

هَتَفَتْ في لهفةٍ: حقًّا؟

قلتُ لها: حقًّا.

وابْتَسَمْتُ، وابْتَسَمَتْ، وانْحَلَّتِ المشكلة بِفَضْلٍ منَ الله، تُرى كيف؟

يتبع إن شاء الله

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير