الحال الثالثة: أن نعلم أن الذبح وقع ولكن نجهل كيف وقع بأن يأتينا ممن تحل ذبيحتهم لحم أو ذبيحة مقطوعة الرأس ولا نعلم على أي صفة ذبحوها ولا هل سموا الله عليها أم لا.
ففي هذه الحال المذبوح محل شك وتردد، ولكن النصوص الواردة عن النبي صلىالله عليه وسلم تقتضي حله وأنه لا يجب السؤال تيسيراً على العباد وبناء على أصل الحل، فقد سبق أن النبي صلىالله عليه وسلم أكل من الشاة التي أتت بها إليه اليهودية وأنه أجاب دعوة يهودي على خبز وشعير وإهاله سنخة، وفي كلتا القضيتين لم يسأل النبي صلىالله عليه وسلم عن كيفية الذبح ولا هل ذكر اسم الله عليه أم لا؟ وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن قوما قالوا للنبي صلىالله عليه وسلم: إن قوماً أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: ((سموا عليه أنتم وكلوه))، قالت: وكانوا حديثى عهد بالكفر. فقد أحل النبي صلىالله عليه وسلم أكل هذا اللحم مع الشك في ذكر اسم الله عليه وهو شرط لحله، وقرينة الشك موجودة وهي كونهم حديثي عهد بالكفر فقد يجهلون أن التسمية شرط للحل لقرب نشأتهم في الإسلام، وإحلال النبي صلىالله عليه وسلم لذلك مع الشك في وجود شرط الحل (وهى التسمية) وقيام قرينة على هذا الشك (وهي: كونهم حديثي عهد بالكفر) دليل على إجراء ما ذبحه من تحل ذبيحته على أصل الحل، لأن الاصل في الأفعال والتصرفات الواقعة من أهلها الصحة، قال في المنتقى بعد أن ذكر حديث عائشة السابق: وهو دليل على أن التصرفات والأفعال تحمل على حال الصحة والسلامة إلى أن يقوم دليل الفساد اهـ.
وما يرد إلينا مما ذبحه اليهود أو النصارى غالبه مما جهل كيف وقع ذبحه فيكون تحرير المقام فيه إجراؤه على أصل الحل وعدم وجوب السؤال عنه.
المقام الثالث: الحكم على هذا الوارد بأنه من ذبح من تحل ذبيحته.
وهذا المقام له ثلاث حالات أيضاً.
الحال الأولى: أن نعلم أن من ذبحه تحل ذبيحته، وهم المسلمون وأهل الكتاب (اليهود والنصارى). ففي هذه الحال المذبوح حلال بلا شك لوقوع الذبح الشرعى من أهله، وطريق العلم بذلك أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره، أو يكون مذبوحاً في محل ليس فيه إلا من تحل ذبيحته.
الحال الثانية: أن نعلم أن من ذبحه لا تحل ذبيحته كالمجوس وسائر الكفار وغير أهل الكتاب. ففي هذه الحال المذبوح حرام بلا شك لوقوع الذبح من غير أهله، وطريق العلم بذلك: أن نشاهد الذابح المعلومة حاله أو يخبرنا به من يحصل العلم بخبره، أو يكون مذبوحاً في محل ليس فيه من تحل ذبيحته.
الحال الثالثة: أن لا نعلم هل ذابحه من تحل ذبيحته أو لا؟ وهذا هو الغالب على اللحم الوارد من الخارج، فالأصل هنا التحريم فلا يحل الأكل منه لأننا لا نعلم صدور هذا الذبح من أهله.
ولا يناقض هذا ما سبق في الحال الثالثة من المقام الثانى حيث حكمنا هناك بالحل مع الشك، لأننا هناك عملنا بصدور الفعل من أهله وشككنا في شرط حله والظاهر صدوره على وجه الصحة والسلامة حتى يوجد ما ينافي ذلك، بخلاف ما هنا فإننا لم نعلم صدور الفعل من أهله والأصل التحريم، لكن إن وجدت قرائن ترجح حله عمل بها.
فمن القرائن:
أولاً: أن يكون مورده مسلماً ظاهره العدالة ويقول: إنه مذبوح على الطريقة الإسلامية، فيحكم بالحل هنا لأن حال المسلم الظاهر العدالة تمنع أن يورد إلى المسلمين ما يحرم عليهم ثم يدعي أنه مذبوح على الطريقة الإسلامية.
ثانياً: أن يرد من بلاد اكثر أهلها ممن تحل ذبيحتهم، فيحكم ظاهراً بحل الذبيحة تبعاً للأكثر إلا أن يعلم أن المتولي للذبح ممن لا تحل ذبيحته فلا يحكم حينئذ بالحل لوجود معارض يمنع الحكم بالظاهر.
¥