وقد أحبّ بعض الضيوف أن يختبر مهارة الفتى في النظم فطلب إليه أن ينظم على الفور أبياتاً في وصف امتحان الشهادة الابتدائية، فانحنى عليٌّ جانباً ثم عاد بعد قليل وفي يده أبيات مطلعها:
إن شئت أن ترنو ليوم المحشر
فادخلْ فحوص السبت هيَّا وانظرِ
حَشْدٌ من الطلاب صخّابٌ له
في البهو طول تفاخُر وتبخترِ
فأُعجب الضيوف بسرعة بديهته وسلامة نظمه ولغته.
وفي المدرسة المحمدية اكتشف الشيخ محمود الشقفة موهبة الصوت الجميل عند عليّ، فنصحه أن يشارك في إنشاد المدائح النبوية في حلقات الذكر.
ولم يلبث عليّ أن غادر المدرسة المحمديّة إلى مدرسة المقاصد الإسلامية في بيروت، ثم إلى الكلية الشرعية الثانوية في دمشق، ثم إلى كلية اللغة العربية في جامعة الأزهر في القاهرة حيث تعرفتُ إليه، وتوطّدت أركان العلاقة بيني وبينه. وفي شهر يوليو -تموز- من عام 1955م تخرج عليٌّ في كلية اللغة العربية ليبدأ رحلته مع الغربة التي لم يستطع التخلص من أغلالها إلا بعد أن لقي وجه ربه عام 1985م. لقد حرمه القدر من أن يدفن في تراب وطنه، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عَمَلُهُ:
لم يعمل رحمه الله في غير مجال التدريس، فقد قضى حياته العملية معلماً يربي الأجيال ويغرس في نفوس أبنائها حُبَّ اللغة العربية، ومآثر أمته ومثلها وآدابها، وما آمن به من مبادئ سامية ومثل عالية. وكانت بداياته مع مهنة المتاعب هذه بعد أن أنهى السنة الثالثة في الكلية الشرعية الثانوية في دمشق، حيث غادر تلك المدرسة بعد أن اكتشف أن شهادتها غير معادلة لشهادة الثانوية العامة، وافتتح مدرسة خاصة في قرية "أورم الجوز" من أعمال أريحا، وظل يعمل فيها ثلاثة أعوام كاملة التحق بعدها بكلية اللغة العربية عملاً بنصيحة صديقه الأستاذ سليم بركات.
وبعد تخرجه في كلية اللغة العربية عام 1955 تعاقد للعمل في المملكة العربية السعودية، ومكث فيها خمسة عشر عاماً دراسياً متصلاً بدا له بعدها أن يعود إلى سوريا ليستقر فيها بقية حياته. ولكي يضع هذه الفكرة موضع التنفيذ حصل على الثانوية العامة السورية وعيّن معلماً في ثانوية السُّقيلبة قرب حماة. ومكث في سوريا أربعة أعوام دراسية متتابعة اضطر بعدها إلى العودة من جديد إلى المملكة العربية السعودية لأن دخله من عمله في بلاده لم يعد كافياً للوفاء بمتطلبات نفقات أسرته التي كان عدد أفرادها ينمو باضطراد. وقد أمضى بعد عودته إلى السعودية أحد عشر عاماً دراسياً متواصلاً انتهت بانتقاله إلى الرفيق الأعلى.
وهكذا يتبين لنا أنه قد سلخ من حياته -يرحمه الله- ثلاثاً وثلاثين سنة وهو يعمل في مجال التدريس، جزاه الله عن لغة الضاد وأبنائها أفضل الجزاء.
صفاته:
كان رحمه الله أبيض البشرة ذا عينين عسليتين مستدير الوجه، جميل القسمات، صبوحاً مشرق الطلعة، يواجه مَنْ يقابله بابتسامة لاتكاد تفارق شفتيه. أما شعره فناعم مسترسل أسود، مشربٌ بشيءٍ من الحمرة الخفيفة.
وقد حباه الله بجسم ممتلئٍ وقامةٍ هي إلى القصر أدنى منها إلى الطول، وأما صوته فجهوريّ ساحرٌ مفعمٌ بمعاني الرجولة والكبرياء يُمَكنه من الاستحواذ على إعجاب الجمهور الذي يلقى عليه قصائده في الندوات والمناسبات.
وكان يتّسم بالطفولة والبراءة وخفة الظل وحبه للدعابة والفكاهة.
وفاته:
كانت وفاته -رحمه الله- كما أسلفت في المقدمة في مساء يوم الاثنين الثالث عشر من جمادى الآخرة سنة 1405هـ الموافق للرابع من آذار سنة 1985م. وكان وزنه رحمه الله قد ازداد زيادةً ملحوظةً حتى بلغ سنة 1398هـ/ 1978م مائة وثلاثة من الكيلوغرامات، وقد اضطره ذلك إلى أن يأخذ نفسه بحميةٍ شديدة ونظام غذائي قاسٍ بلغ من شدته أنه لم يكن يدخل إلى جوفه غير الماء أياماً تتراوح بين الثلاثة والخمسة كما ذكر لي في بعض رسائله.
واستطاع الشاعر ذو الإرادة الحديدية أن ينقص وزنه إلى أن أصبح ثمانين كيلوغراماً هي بالمقاييس الطبية لاتتناسب مع طوله الذي يقضي الطب بألا يزيد وزنه عن سبعين كيلوغراماً في أسوأ الأحوال.
¥