ـ[طارق الحمودي]ــــــــ[13 - 01 - 07, 01:47 م]ـ
الفصل الثالث
قوله بفناء النار
أو أن عذابها ينقلب عذابا ونعيما
وتنويهه بكلام ابن القيم في ذلك في كتابه
(حادي الأرواح وغيره)
مما تفق عليه علماء السلف الصالح في ما يرجع إلى العقيدة, إيمانهم بوجود الجنة والنار الآن, وأنهما باقيتان لا تفنيان أبدا ولا تبيدان, إعمالا للنصوص المتواترة المتكاثرة في القرآن والسنة, بحيث أصبحت هذه المسألة من البدهيات التي يسشنع الخلاف فيها, ولم يخالف فيها إلا أبو الهذيل العلاف المعتزلي الهالك, ومن تبعه مستدلين بفلسفة بائرة, مفادها استحالة دوام حركة بلا انقطاع إلى ما لا نهاية, حتى حكي عنه من شناعته قوله بأنه لا بد أن يأتي على أهل الجنة والنار يوم تبطل فيه حركاتهم, وتتوقف نهائيا, وتبعه على هذا الضلال المبين الشيخ الأكفر محمد بن علي بن العربي الصوفي, فذكر في الفتوحات أنه سيأتي على النار يوم تصفق فيه أبوابها, وينبت فيها الجرجير (اسم نبات) وذلك لخلوها, ولم يلحظ الإمام المجتهد الداعية ابن القيم إجماع من يعتد بهم من أئمة السلف على بقاء الجنة والنار, وعدم فنائها, ووثق بفهمه واجتهاده واستقلاله فأعلن رأيه دون مواربة بعد أن أطال في الاستدلال, ودفع الاشتباه والاحتمال, ببيانه المشرق, ونفسه الفقهي العالي, حيث من قرأه وتدبره مليا انساق معه متأثرا برأيه, مأخوذا بقوة وعيه, وذلك في كتابه العجاب (حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح) وغيره وهذا ما وقع لأبي البيض, فرجح مذهب ابن القيم, ثم اضطرب بسبب إعجابه بقول إمامه الأكفر ابن العربي وقد حكي هذا القول عن شيخ الإسلام ابن تيمية وما أحسبه صحيحا عنه, ولم أره منصوصا عنه, إلا ما حكاه عنه ابن القيم في حادي الأرواح وحكاه عن بعض الصحابة, والجدير بالذكر أن الإمام ابن القيم رحمه الله رجع عن ذلك كما يستفاد من كلامه الكثير في العقيدة السلفية الذي لم يحد فيه قيد أنملة عما أجمع عليه السلف وبعد هذا نأتي بكلام أبي البيض في رسالة منه إلي, وهي مما سطا عليه أبو الفتوح فأورد بعضها في (در الغمام الرقيق ص 226 فقرة رقم 186) ما نصه:
(ومسألة فناء النار, قد ذكر ابن القيم أدلتها, فشفى وكفى, وتبعه بعض كبار العارفين (يعني ابن العربي الحاتمي والتعبير به (وتبعه) خطأ لأن هذا كان قبل ابن القيم بزمان) وصرح بأنه يأتي عليها يوم ينبت فيها الجُرجير, وإن أجاب الشعراني عن ذلك بأن المراد الطبقة العليا طبقة عصاة المؤمنين, لا درجات الكفار, والأدلة متضاربة, إلا أن أدلة القول بفناء نفسها كما يقول ابن القيم أو للألم مع بقاء الصورة العذاب كما يقوله الشيخ الأكفر أرجح (وهو خبر إلا أن أدلة ... ) ويكفي صفة الرحمة مع غلبتها لصفة الغضب, وسبقيتها أيضا, إذا لا معنى لهذه السبقية والغلبة, إلا ظهور أثره, ا وانقطاع الغضب, فالأمر دائر بين انقلاب العذاب عذوبة, وذهاب الألم به مع بقاء الصورة تحقيقا للوعيد كما يقول الشيخ الأكفر, وبين ما يقوله غيره من الفناء على أن هذا القول قد يرجع إلى قول الشيخ الأكبر بأن المراد بالفناء ذهاب الألم وانقطاع العذاب لا صورته التي هي في الحقيقة عين النعيم, فالقولان عندي سواء في المعنى, وإلى ذلك نميل, وبه ندين الله تعالى) اهـ
ويلاحظ أن أبا الفتوح رد على شيخه هذا بمنتهى الأدب بهامش صفحة 226 وهذا عجيب, ولو كان أبو البيض حيا ما جرؤ أبو الفتوح على مخالفته, ثم إن المتأمل في كلام أبي البيض يدرك أنه لم يفطن لتناقض ابن العربي في كلامه بين حكمه بفناء النار حتى ينبت فيها الجرجير, ويصفق أبوابها لفراغها وخلوها عن نزلائها , وبين حكمه ببقاء صورتها تحقيقا للوعيد إلا أن عذابها ينقلب عذبا حلوا ونعيما, ورغم هذا فقد وافقه أبو البيض وصرح أنه يميل إلى القولين المتناقضين ويدين الله تعالى بهما, وهذا من غلبة الشقاء عليه, وإلا فهل يقول مسلم بأن عذاب جهنم الذي أعده الله لأعدائه ووصفه بأبشع الأوصاف وأقبح النعوت في عشرات الآيات ينقلب عذبا ونعيما ينعم به أهل النار, وهل هذا إلا تحد لله, واستهزاء بكلامه, ومعاكسة لمراده, نسأل الله السلامة والعافية, وهي في الحقيقة فاقرة ثانية تضاف إلى فاقرة فناء النار, وبعد هذا لا يلام شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه إذا صرح في كثير من كلامه بأن كفر هؤلاء الاتحادية أقبح من كفر اليهود والنصارى, وهذا كلام ابن العربي نظما في الموضوع في نونية له
فلم يبق إلا صادق الوعد وحده وما لوعيد الحق عين تعاين
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين
يسمى عذابا من عذوبة طعمه وذاك له كالقشر والقشر صائن
ومآل هذا الكلام أن مصير الكافرين إلى سعادة ونعيم, ونسأل الله أن يحشرهم (أي الشيخ الأكفر وأبا البيض ومن يدين بدينهم) معهم يوم القيامة ويقال لهم (هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (المطففين: من الآية17) ويقال لهم (اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (الطور:16)
¥