ـ[طارق الحمودي]ــــــــ[13 - 01 - 07, 01:48 م]ـ
الفصل الرابع
قوله بجواز رؤية الله تعالى يقظة ومناما في الدنيا وادعاؤه ذلك
مسألة رؤية الله تعالى يقظة فاقرة من فواقر الدهر التي لا علاج لها إلا السيف, لأن الأنبياء والمرسلين وسيدهم وأفضلهم سيدنا محمد عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام لم تحصل لهم, وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ يعني في المعراج فأجاب (نور أنى أراه) وهو صحيح لا غبار عليه , وقد ورد تفسير قوله: (رأيت نورا) بأنه حجاب العظمة, وهذا كلام فصل قاطع للنزاع, وقد حرره بأسلوب علمي متين الإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية, وهذا كليم الله موسى بن عمران عليه السلام, طلب رؤية الله عندما كلمه في الطور , فقال (رب أرني أنظر إليك, قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني, فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا, فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول العابدين) فهذه الرؤية البصرية لم تحصل للمرسلين حتى كليم الله , وسيد الخلق, رغم سؤال موسى لها, فكيف يجرؤ من يدعي الصلاح والولاية على ادعائها (سبحانك هذا بهتان عظيم)
وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال من حديث: ( .. واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه في الدنيا) , قال البربهاري في شرح السنة: (من زعم أنه يرى ربه في دار الدنيا فهو كافر بالله عز وجل)
ورغم آية القرآن. اقتحم سلطان العاشقين! عمر بن الفارض المصري ,وصارح ربه قائلا:
وإذا سألتك أن أراك حقيقة فاسمح , ولا تجعل جوابي لن تراني
فانظر يا أخي هداني الله وإياك, إلى هذا الاستخفاف بالربوبية, والاستهزاء بعظمة الألوهية, الذي كان من نتائجه تكاثر المدعين الدجاجلة, فيحكى عن أبي يزيد البسطامي وأبي سعيد الخراز والحلاج وغيرهم, ما إن ثبت عنهم صح الحكم بردتهم وكفرهم. وإذا بلغتَ إلى ابن العربي في الفتوحات, رأيتَ العجائب من هذه الفضائح الكفرية, فلا غرو أن يدلي بدلوه في غياب حكم الشريعة, وشيوع الفوضى والإلحاد, وإغماد سيف الحق, أبو العسر, فيزعم أنه رأى الله تعالى يقظة لا مناما, وكيف لا وتلميذه الرقيع أبو الفتوح زعم أن الله ـ سبحانه وتعالى عما يقول الأفاكون علوا كبيرا ـ تشكل في صورته, فرآه بعض براذينه, وهذا كفر ما بعده كفر , ونستغفر الله من حكايته, وحاكي الكفر ليس بكافر, وليته طوى البلاء على ما فيه, بل كتب به إلى أبي البيض , وزعم أنه أقره, وعبر له الرؤيا بالموافقة, ولم يأت بكلام شيخه بنصه لحاجة في نفسه, حتى نشره هو في كتابه (در الغمام) (ص149) ونصه: (والذي رأى الله في صورتك حق, لأنه لم ير الله تعالى, وإنما رأى الرب بدليل قوله لك: يا رب اغفر لي, ولم يقل: يا ألله, والرب هو السيد, وهو المعلم , فأنت معلمه وسيده اهـ وهذا الهذيان مقبول في الجملة بخلاف كلام أبي الفتوح الموهم ما لا يجوز , ثم إن ادعاء رؤية الله يقظة إن جرت على مذهب أهل الاتحاد والوحدة, جازت عندهم لأن الله تعالى عندهم كل شيء, فكل ما تراه من حسن وقبيح هو الله, ألم تسمع غلاتهم كابن سبعين والتلمساني وابن العربي يقولون: (ليس إلا الله) , حتى سُمُّوا: (اللَّيْسِية). وكان منهم من إذا سمع نهيق الحمار يقول: لبيك. وقد قال ابن العربي:
وما الكلب والخنزير إلا إلاهنا وما الله إلا راهب في كنيسة
كما أن كل كلام في الوجود حسنا كان أو قبيحا, أو مجونا أو كفرا , أو ردة أو ضلالا أو سخفا, نظما كان أو نثرا, فهو كلام الله تعالى, وتقدس ربنا عن هذا الكفر المبين, كما قال ابن العربي:
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
ولما ادعى أبو الفتوح هذا المسخ في مبشراته بالنار, استنكرته بلساني فبلغه إنكاري, كان يومئذ في أوج سُعاره بُعَيْد وفاة أبي البيض, وهو بصدد بناء الزاوية وجمع الأنعام حوله. فكتب رسالة (الإعلام بجواز رؤية الله في المنام) وطبعها, وهي عبارة عن عريضة سباب وطعون, وقذف صريح, يطالب بإثباته شرعا وإلا أقيم عليه حد القذف. ولما قرأتها رددت عليه يومها برسالة سميتها (بيان إلى الدجال القرمطي, عبد الله الكرفطي) أو (نشر الإعلام بمروق الكرفطي من دين الإسلام) وبعد نحو أربعين سنة من كتابتها, وقعت بيد الأخ الأستاذ الداعية عمر الحدوشي (فك الله أسره) , فاستأذنني في طبعها فأذنت وطبعها, وأثنى عليها من وقف عليها, لأنها تضمنت حقائق واضحة, ودلائل نيرة, علاوة على حكاية إجماع الحنفية على اعتبارها ردة وكفرا, ومعلوم أن رؤية الله في المنام صحت عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قوله (رأيت ربي في أحسن صورة ... ) هذا اللفظ الثابت بخلاف (رأيت ربي في صورة شاب أمرد) ونحوه فإنه لا يصح. ولكن هذا ومثله كالوحي ومشاهدة الجنة والنار من شأن النبوة لا يجوز القياس عليه. وهذا هو السر في أن هذه الرؤيا لم تثبت بل, لم تجئ عن الصحابة والتابعين, لأنهم كانوا أعرف بالله تعالى, وأخشى لله أن يدعوا ما لا يجوز ولا يعقل. وما يحكى عن الثوري والإمام أحمد وغيرهما من أئمة السلف لا ثقة به. ويحتاج قبل الخوض في معانيه والمراد منه إلى نقد أسانيده, ثم تكاثر ذلك حتى ادعاه من هب ودب, كأبي البيض الذي أورد في جؤنته رؤياه لربه التي هي عبارة عن صحون من الأطعمة تأتي من ورائه وتنزل بين يديه, فعبرها هو بأن ذلك التصرف كان من الله. وأن تلك الأطعمة إكرام من الله له في مقابلة صبره على عداوة أشقائه له. هذا مفاد الرؤيا وتعبيرها, اعتمدت فيها على الذاكرة, لأن الكتاب بعيد عني, وقريب من هذا الخور ما يحكى عن الصوفية ونحوهم, فإنهم جميعا إذا سئلوا ماذا رأوا؟ ـ وهو سؤال طبيعي ـ أخرسوا وجمجموا ولم يفصحوا. لأن في الإفصاح تشبيها وتجسيما, وهو كفر والعياذ بالله. ولذلك لجأوا إلى التأويل , وأن المراد بالرؤيا الرمز والمثال. ولا أدري رمز من ولا مثال من. ألا يكفي هذا للزجر عن ادعاء الرؤيا؟
¥