وصار لها في الزَّمن المتأخر عند المعْتني بها، ما صارَ لسائر علوم الآلة، كأصول الفقه، أن تدرس كعلوم نظريّة، لا تستعمل في الواقع، إلى أن تجرَّأ طائفة من الطّلبة في هذا الزَّمان فصاروا إلى استعمال تلك المصطلحات للحُكم على الأسانيد المرويَّة، اكتفوا بمصطلحات ظاهرة قصدت عند صياغتها أن يحفظها الصِّبيان في الكُتَّاب، حسِب هؤلاء أنَّ هذا هو منتهى الطَّلب لهذا العلم، إلاَّ نفراً يسيراً أدركوا وعورة الطريق، فسلكوه متأنِّين حذرين، مجتهدين في اتّباع علامته.
وقد رأيت تلك العلامات تحتاج إلى ترميم، ومنها ما يحتاج إلى إعادة بناء، فكما قصدت إلى تقريب (أصول الفقه) الّتي هي علامات المرور في طريق الفقه، فكتبت " تيسير علم أصول الفقه "، وقرّبت ما ينبغي العلم به مُحرّراً للإقبال على كتاب الله عزّ وجل، فكتبت " المقدمات الأساسيّة في علوم القرآن "، فكذلك وجب إتمام القصْد في علوم الآلة أن آتي على علوم الحديث، فأحرِّرها، لا اكتفاء بتقريب مصطلحاتها، بل بصياغتها بأتمِّ صيغة ممْكنة، مؤصّلة من منْهج أهلها.
وهذا عِلْمٌ لي منذ تلقيته ما يزيد اليوم على ربع قرْن من الزّمان، وأنا أعالجه وأعانيه، وكنت أجد إلحاحاً من داخلي بضرورة أن أصوغه مستوْعب الأبواب وبأسلوب عصْرانيِّ العرْض تيسيراً على الطُّلاب، دون إخلال بشيْء من مراد أهله، مع ما انضمّ إلى ذلك من سؤال من كثير من طلبة هذا العلم الحريصين على تحقيق مسائله وتحريرها، حتى صارت زبْدةُ الأفكار والمقيَّد من المسائل والآثار، إلى هذا الكتاب الذّي بين يديك.
طريقة المتقدّمين، وطريقة المتأخّرين:
شاع بين كثير من طلبة هذا العلم في هذا الزّمان نِزاعٌ بين ما سمّوه (طريقة المتقدّمين) و (طريقة المتأخّرين) في علوم الحديث.
وتحرير محلِّ النّزاع: أن أصحاب التَّفريق رأوا علماء الحديث المتأخرين صاروا إلى الحكم على الأحاديث على ما تقتضيه ظواهر الأسانيد، والتَّقليد لعبارات بعض متأخري العلماء في الحُكم على الرُّواة، دون مُراجعة لكلام أئمة الجرح والتَّعديل، إذ كثيراً ما يختلفون في الرّاوي، كذلك دون اعتبار للعلل الخفيّة في الرّوايات.
وأيضاً، رأوا للمتأخرين تساهلاً في إطلاق المصْطلحات، والتَّوسُع في قبول الحديث المعلول، بيْنما كان الأوّلون يردُّون مثل تلك الأحاديث.
ومن تساهلهم: تهوين العبارة في الرّواة، كإطلاق وصف (ضعيفٌ)، أو (فيه ضعفٌ) على الرّاوي الواهي السّاقط، مما يُسهِّل أمره، ويجعل حديثه مقبولاً ولو اعتباراً، من أجل خفّة هذا اللّفظ المتأخر في الجرح.
وكذلك يقولون في الحديث: (ضعيفٌ)، وهو في الواقع (موضوعٌ) مثلاً.
وأقول: لا ريْب في صحّة هذا المأخذ، لكن إطلاقه ليس بمحمود، فإنَّ لمتأخّري العلماء تحريراتٍ نافعةً في هذا العلم، كالحُفّاظ: أبي بكر البيهقيّ، والخطيب البغداديّ، وابن عبد البرّ الأنْدلسيّ، فأبي الحجاج المزّيّ، فالذّهبيّ، وابن كثير الدّمشقي، وابن قيّم الجوزيّة، وابن رجب الحنبليّ، فأبي الفضْل العراقيّ، فابن حجر العسقلانيّ، وغيرهم.
وإن كان التّساهل المشارُ إليه يقع من غيرهم، وربّما من بعضهم تارةً، فإنّه لا يصلح أن يقام النِّزاع المورثُ إعراضاً عند بعض النّاس عن تحريرات مثل هؤلاء الأعلام.
وهذا العلم في تحرير من تقدَّم جميعاً مرْجعه إلى طريقة المتقدّمين، فلا غنى لهم عن منهاج أهله، كمالك بن أنس، وشُعبة بن الحجَّاج، وسفيان الثّوريّ، ويحيى بن سعيد القطّان، وعبد الرّحمن بن مهديّ، وأحمد بن حنبل، وعليّ بن المدينيّ، ويحيى بن معين، والبُخاريّ، ومسلم بن الحجّاج، وأبي زُرعة الرّازيّ، وأبي حاتم الرازيّ، وأبي داود السّجستانيّ، والتّرمذي، والنّسائي، وإخوانهم من متقدّمي أئمة هذا الشّأن.
وأما منهاجي في هذا الكتاب، فقد بنيتُ فيه تحرير أصول هذا العلم على طريق السّلف المتقدمين، واستفدت من تحريرات المتأخرين، وعدلْتُ عن ابتكاراتهم في هذا الفنّ؛ لأنهم جروا على التَّنظير في أكثر ما انفردوا به، خصوصاً أهل الأصول منهم، وهذا العلم مستنده إلى النّقل، وإلى التَّبصُّر في منهج أهله.
¥