عندها أذعن وبدأ يشاور أصحابه، فامتنعوا عن الإسلام، ثم امتنعوا عن الجزية، وقالوا: لئن دفعناها لم نَعدُ أن نكون لهم عبيداً، وللموت خير من هذا، فقال المقوقس: أجيبوني وأطيعوا القول، والله ما لكم بهم من طاقة، وإن لم تجيبوهم طائعين لتجيبُنَّهم إلى ما هو أعظم منها مكرهين، فأبوا وامتنعوا، فاقتحم المسلمون عليهم أحد حصونهم في هيمنة تكبير ارتجت لها الأرض معلنة: ألا كبرياء في الأرض إلا وكسرت شوكتها، وقلبت ظهراً لبطن، ولم يبق إلا كبرياء الله.
أدَّت رسالتَها المنابرُ وانبرى ... حد السلاح بدوره ليقولا:
آن الأوان لأن نخاطر بالدمِ ... مَن لم يخاطر بالدما لم يسلمِ
ففتح حصنهم، وكسرت شوكتهم، وذَلوا، فلام المقوقس قومه، وقال: ألم أخبركم؟! أما والذي يُحْلَف به لتجيبنهم إلى ما أرادوا، فلو أن هؤلاء القوم استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتالهم أحد، أطيعوني ..
فأذعنوا .. وذَلوا .. وخنعوا .. ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فيا ناشد الحق في مجامع المبطلين! لا رد الله ضالتك، أتطلب الفَص من اللص، وتقيس في مورد النص.
يا قوم كفوا عن الشكوى لذي صمم ... لا يُسمع الصم إلا الصارم الذكرُ
لقد كان ذلك الجيل محتفظاً بشخصيته المتميزة القوية إزاء تلك الحضارات المادية الدنيوية في تلك المعارك السقيطة، ما فقدوا شيئاً من مبادئهم وقيمهم، عبروا دجلة المادة، وفرات البهرج، فلم تبتل ذيولهم فيها؛ لأنهم عبروها بإيمان بالله عميق، وموازين دقيقة، وقيم أهلتهم للعزة والقيادة، والسمو والريادة، فانتزعوا عجلة القيادة من القيم الهابطة، والمفاهيم والعقائد الفاسدة، والمثل المفترئة؛ لأن المواجهة كانت بين القيم والمفاهيم، والمألوف أن تسري سنة الله .. أن البقاء للأصلح: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17] ^.
معشر الإخوة: ولما التفتت الأمة إلى غير تلك القيم ولم تزن الدنيا بميزانها الحق؛ رفعت الطين، ووضعت الدين، فقدت وهي على البر هويتها ومقوماتها، فإذا عموم أبنائها دون آحادهم عقولٌ في طلب الدنيا، بُلْه عما خلقوا له، طلاب أمانٍ، دين أحدهم لعقة على لسانه، عن الباقي مصروف، وبالفاني مشغوف، بالخوف من كل شيء إلا من مولاه معروف .. بالخزي محفوف، محب للدنيا .. كاره للموت، من خوف الموت بالموت وأشد من الموت .. يعتبر الدنيا رأس ماله، ومنتهى آماله، يود لو يعمر ألف سنة حتى إذا جاءه الموت خرج من الدنيا وهو حزين متلهف على ما يفارقه، كاره مستبشع ما يستقبله .. غثاء هباء، لا ينفع ولا يدفع ولا يرفع ولا يصفع ولا يشفع.
إنما تلك مسوخ ورثت ... نسبة الإسلام عن أم وجَدْ
وعندها:
تشابهت البهائم والعِبِدَّا ... علينا والموالي والصميمُ
أولئك الجيل فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، فساروا بمفتاح السمو يفتحون المشارق والمغارب، لا يستعصي عليهم قُطر، ولا يستعصي عليهم مِصر .. الحصون تُفْتَح، والقلوب تُفْتَح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تُصَحَّح، فكانوا السماء.
ولما تخلفت هذه المفاهيم عند مَن بعدهم أصيبوا بمركَّب النقص، فكانوا السماوة.
وشتان ما بين السماوة والسماء.
ألا إن من السخافة أن يقال: إن السماوة والسماء واحد؛ لأن النسبة إليهما في اللغة واحدة (سماوي) لا يقول به إلا غبي أو صبي أو عقل وراءه خبي.
من رام شهداً فإن النحل مصدره ... ومن بغى السم فليطلب له الرقطا
سر السمو إلى السماء لذلك الجيل؛ هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، يعدلون بعدل الله، ويزنون بميزان الله، ويعملون على اسم الله لا سواه .. يوالون الله ويعادون أعداء الله .. رقابة الله كمنت في ضمائرهم، والطمع في رضا الله والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر وعقوبتهم، فصار المسلم حقاً هو الأعلى.
يقف موقف المجرد من كل قوة مادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، يتداعى عليه الأعداء وهو كالطود ثابتاً لا يتزحزح، وهَبْها كانت القاضية .. فماذا يضيره؟
الناس يموتون وهو ورهطه يستشهدون، فيغادرون الأرض إلى رحمة الله حين يغادرها غيرهم إلى غضب الله.
هو الأعلى ..
من الله يتلقى، وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير .. يسود مجتمعه عقائد باطلة مغايرة لما هو عليه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى.
يضج الباطل ويرفع عقيرته التي قد تعشى معها الأبصار، وتغشى البصائر، فلا يفارقه الشعور رغم الضجيج .. لأنه الأعلى.
يغرق المجتمع في شهواته، ويمضي مع نزواته إلى الوحل والطين، فينظر من أُفُقِه العالي إلى الغارقين في الوحل .. اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا تراوده نفسه على خلع ردائه الطاهر، والانغماس معهم في الوحل .. لأنه الأعلى بلذة الإيمان والتقوى.
يقف قابضاً على دينه كالقابض على الجمر، في مجتمع شارد عن القيم والدين، وهم يهزءون به ويسخرون، فيقول بقول من سبقه في موكب الإيمان العريق، والطريق الطويل: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38] ^ ويتلمح نهاية الموكب الفائز الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قول الله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34] ^ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:35] ^ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36] ^.
بهذا الشعور، وبتلك القيم .. ارتقت الأمة في نظامها وأخلاقها وحياتها وكل شئونها إلى قمة سامية سامقة، لم ترتفع إليها من قبل قط، ولم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل منهاج ذلك الجيل.
فانهض فقد طلع الصباحُ ... ولاح محمر الأجيمْ
وشتان ما بين السماء والسماوة
أرجو من المشرف تعديل السقط في عنوان الموضوع:نفائس الجوهر والدُّر , من كلمات سحبان هذا الدهر , علي القرني حفظه الله.!!
¥